في شأن "شرف الخسارة"

2022.12.18 | 06:03 دمشق

 في شأن "شرف الخسارة"
+A
حجم الخط
-A

صنّفت وكالات إعلامية عربية وصفَ بايدن لأداء الفريق المغربي، بالرائع، تصنيفًا شريفًا، وكان يحضر لقاءً مع قادة من أفريقيا، واعتبره نصرًا لأفريقيا، فهو وصفٌ ينسب الفريق للقارة، وهو نسَبٌ بعيد، وأقرب منه للوطن الصغير أو الكبير، أو اللغة، أو سواهما، فهو تغريب مغرض، أما الرئيس الفرنسي، الذي حضر المباراة غير هائب من الخسارة، أخرج لسانه عند تحقيق الهدف الفرنسي في مرمى المغرب، ويقصد بإيماءته الصبيانية منتهى النشوة والفوز.

وفي فلم المجالد (جلاديتور) مشهد شبيه للقيصر، وهو يُخرج لسانه مذهولًا بالعرض في الحلبة. مع ذلك خرج المغاربة يفرحون بالخسارة المشرّفة في مناطق النزوح في الشمال الأوروبي والمنافي البعيدة، التي نزحوا إليها طلبًا للكلأ والمرعى، كما فرحوا بالفوز.  قلّما يحصل في الغرب الاحتفال بالهزيمة، فهم قوم لا يعرفون إلا شرفًا واحدًا هو شرف الربح والنصر.

إن صحّ تصريح منسوب لأبي ياسين بونو بأنه لم يكن يريد أن تفوز المغرب على إسبانيا، فإنه يذكر يقول "العين لا تعلو على الحاجب"، فهو وابنه من مزدوجي الجنسية، وقلبه ممزق بين ولائين.

كان أجرها الذي تستحقه هو ثمانين روبلًا، ويعاتبها ويحثّها على المطالبة بحقها، ويلقّنها درسًا في المطالبة بحقها

في قصة الخادمة لتشيخوف، وهي قصة روسية شهيرة، وفيها ينادي السيد خادمته يوليا، من أجل الحساب والأجرة، وكان أجرها المستحق لها عن سبعين يومًا من الخدمة ثمانين روبلًا روسيًا، فيغرّمها بثمن الفناجين المكسورة، و أجرة مرضها، وأجرة مرض ابن السيد الذي كان قد مرض أربعة أيام، وثمن القميص الذي مزقه ابنه وهو يتسلق الشجرة، فغُرّمت لغفلتها عنه، حتى لم يبق من أجرها سوى عشرة روبلات، فتأخذه الخادمة شاكرة، فيأخذ الغضب السيد كل مأخذ، ويكشف لها أنه إنما كان يمازحها، وأجرها الذي تستحقه هو ثمانين روبلًا، ويعاتبها ويحثّها على المطالبة بحقها، ويلقّنها درسًا في المطالبة بحقها.

ووقع أمامي حادث عجيب في باص نقل سوري مزدحم بالركاب، شبيه بقصة الخادمة الروسية، وجدت نشّالًا يدّس يده في جيب أحد المسافرين ويسرق منه مبلغًا من المال، فانقضّ عليه الركاب الذين كشفوا أمره مثلي، بالجرم المشهود، وأنزلوا السارق والمسروق منه أمام مخفر شرطة، وكانت أمّ الضحية معه، فبكت مذعورة، وهي تظن أنهم سيؤذون ابنها، وجعلت تتوسل إليهم أن يخلوا سبيل ابنها، ونزلتُ معهم حتى أشهد نهاية القصة، الضحية كان مذهولًا ومذعورًا، وكان يظن أنهم يريدون به شرًّا، ويريد أكثر من الجاني أن ينتهي الأمر على خير، وأن ينجو من المعركة بثيابه.

حوّل عادل إمام مشهد المواطن المسكين الذي لا يريد من غنيمته سوى الإياب، في مسرحية شاهد ما شفش حاجة إلى كوميديا، ينزل الشرطي حسين بثقله على صدر سرحان عبد البصير بأمر المفتش، ويضّيق عليه، فيأمر المفتش الشرطي بأن يخفّ عنه، فيخفّ، ينسى حسين نفسه، ويحرّر صدر المتهم سرحان، فيسحبه سرحان ويعيده إلى وضعه الأول!

شاع تعبير شرف المشاركة، وشرف الخسارة، في التعليقات الرياضية، لكنه في السياسة والحكم، أشيع حكمًا وتطبيقًا، عبر  عمر بن الخطاب وهو يوزّع المال من بيت المال على الناس، فقال أحدهم: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، فقال: ما بالهم نعطيهم حقهم ويظنونه منّي منّة عليهم.

في قصة الخادمة، الضحية امرأة مسكينة، أما في حالتنا، فنحن شعب كامل، يرفع السيد الرئيس الأجر، فيعتبرها الإعلام عطاء ومكرمة من الرئيس، يحضرُ مباراة، فنشكره على الاستراحة من المعركة التي لا صوت يعلو على صوتها. وهي معركة وهمية لم تقع، ولن تقع، وإن وقعت، فهي مع الشعب. يبقى أن الشرف قد حُصر في الملاعب الخضراء، ولا يُذكر إلا فيها، وقد وقع أن دولة عربية هي المغرب بلغت المربع الذهبي، وحصلت على قوة الكرة ناعمة، بقي أن تحصل على القوة الخشنة، فهي القوة.

جعل العرب للشرف وجهين: شرف ربح، وشرف خسارة، بينما الشرف لا يغادر العرب إن انتصروا على العدو أو انهزموا

أغلب الظن أن الرئيس الفرنسي الذي ضرب أكباد الطائرات إلى البادية العربية، كان متيقنًا من شرف وحيد، هو شرف الفوز، ففريقه يضم أفضل اللاعبين من قارتين، هما أوروبا وأفريقيا، واللاعبون الأفارقة، وهم عدّاؤون لا يُغلبون، فسبعة من لاعبي الفريق هم من دول عدة من مستعمرات فرنسا القديمة، أو نازحون إليها طلبًا للمجد والمال، سوى ذلك كثر الحديث عن ضربتي جزاء للمغرب ضد فرنسا، أو واحدة على الأقل، فإن لم يكن، فإن البطاقة الصفراء اعتداء وشبهة مؤامرة تحكيمية، سكت عنها المغاربة كما سكتت يوليا عن حقها، فضاع.

جعل العرب للشرف وجهين: شرف ربح، وشرف خسارة، بينما الشرف لا يغادر العرب إن انتصروا على العدو أو انهزموا. سيعود سبعة من لاعبي الفريق المغربي إلى أوروبا (إسبانيا وبلجيكا) ليلعبوا في أوطانهم الجديدة، في فرق أوروبية، تستأجرُ قوتهم ورأيهم وعقولهم ونعالهم مقابل أجور مجزية، فهي بلاد تستقبل العقول وتكرّمها، كما تستقبل الأقدام والنعال الذهبية، فتصنع لها مجدي القوة الخشنة والقوة الناعمة.