ربيع الأقليات ومعترك النخبة.. العلويون مثالا

2024.05.26 | 05:20 دمشق

آخر تحديث: 26.05.2024 | 05:20 دمشق

99
+A
حجم الخط
-A

في مطار إسطنبول وبحقيبة الظهر المثقلة استوقتني موظفة المطار وأشارت لي بيديها بإيماءة توحي بالتكبيل بالأصفاد، فظننت أن لديها أمرا باعتقالي، ارتفعت دقات قلبي لا سيما أني معتقل مخابرات جوية سابق، تمالكت نفسي وسألت لماذا، فإذا بها تسألني عن كتاب مشكول في جيب حقيبتي الشفاف بان عنوانه، عن المعتقل، وبلغة عربية ركيكة طلبت استعارته فانفردت أساريري وابتسمت واعتذرت، لأنه أمانة مرسلة من دار النشر للكاتب الذي حطت به الرحال في ألمانيا، سافرت ولم أسلم الكتاب لكاتبه، المجهول بالنسبة لي، إلا بعد أن أنهيت قراءته وكان العنوان "سجن صيدنايا الإضراب الكبير.. رواية معتقل علوي"  لفراس سعد، وقد كان الكتاب شهادة وتوثيقا ومكاشفة تسنده وقائع وشهادات عمل على توثيقها مثقف معارض عانى قسوة النظام المركبة مرة لأنه معارض، ومرة لأنه علوي من بيئة يفترض فيها أنها رصيد النظام وحصنه الأخير بفعل النظام أو بغيره، استوى سرد الكاتب ليوقد شمعة في عتمة الظلم المعمم تحيل إلى ضرورة كسر الكثير من الجليد الذي علا بين ضفتين.

ولأن الشعوب قد تجاوزت نخبها منذ انطلاقة الثورة، نجد من الضروري تعريف تلك النخب وتحديدها، مع التوكيد أن مفردة النخبة لا تعني الصفوة الخيرة في بيئة ما، بل جملة الشخصيات الفاعلة والمؤثرة أو المتحكمة بنزوع أي جماعة أو نسق اجتماعي وذات الأثر الظاهر في الحركة والفعل سلبا أم إيجابا.

بعد خروج الشعوب العربية ضد أنظمتها، وتجاوزها نخبها يصبح من الجائز التفكر بالأنظمة وجهة انتمائها، وبالنخب أيضا في مدى كونها ناجمة عن فعل تلك الشعوب أم ربيبة تلك الأنظمة، ما يضعنا أمام إشكالية ليست تأويلية فحسب بقدر ما هي معرفية مؤسسِة حيث اختزلت الدولة بالسلطة، مع شتى خطط وبرامج أي سلطة في الترسيخ والهيمنة. وعليه لا بد من التنبه لتساؤل يطرح نفسه وهو: هل اشتغلت الطائفة في حراك اجتماعي وسياسي لتنتج نظاما كهذا؟ أم أنها سندته وقوّته بعد حملة تجنيد وتأطير لعبها نظام الأسد على الطائفة، مثلما لعب على بنى اجتماعية أخرى عشائرية ودينية صوفية وتنظيمية بعثية ضمن أبناء شتى أطياف المجتمع السوري؟

استولد نظام الأسد العقيدة المذهبية للطائفة ورعاها عبر مشايخ مؤيدين، وصفى كل من يخرج عن رؤيته في المجال الديني، وكيف حول الحياة إلى حلبة صراع مع الآخر السوري – السني وكيف شيطنه هو الآخر أيضا لتعميق الشرخ مع إيهام الطائفة بأنه حاميها.

إن دراسة مقربة من مجتمع الطائفة ومن أبنائها، تحيل إلى ضرورة فهم عملية التأطير والتحشيد التي خضع لها ذاك المجتمع والتي وردته محمولة تارة على عامل المصلحة، وأخرى على عامل التطييف العقدي لنسف كل إمكانات عيش حياة طبيعية بإمكانات تطور ذاتية وتفاعلية مع الذات والآخر في المحيط، سواء كانت على حامل إنساني أو حامل اقتصادي، في سائر الأنشطة الحياتية التي يمكن أن تتضمنها مسيرة التفاعل الاجتماعي بين أفراد وجماعات أي مجتمع مستقل عن التأثيرات الخارجية وإن لم يكن حرا بالمعنى السياسي، ليجد القارئ، والمثقف العلوي كذلك، أنه أمام نظام نجح فيما فشلت فيه فرنسا أيام احتلالها لسوريا.

يمكن الاعتقاد بوجود ثلاثة أنساق من النخب: تقليدي، ومستولد ــــ صنيع، وحديث:

الأول التقليدي، الذي رُسّخ تاريخيا وتعرض لخطط النظام وبرامجه لضمان تبعيته واتباعه في نشر ذهنية التقوقع والتحزب والعودة للمرجعية ما دون الوطنية، ينقسم لوجاهات اجتماعية قَبَلية تضمر احتقارا لآل الأسد فحطمها، ومشيخات دينية عمل على تعبئتها عقديا لتقوم بدورها بتعبئة محيطها وجملة تابعيها مع إقصائه لمن لم يتبعه منها، مثلما رسخ في مكان آخر من سوريا المرجعية القبلية لتصبح وسيطا بين الفرد والدولة المختزلة بالسلطة.

والنسق الثاني المستولد الصنيع، هو جملة النخب الاجتماعية والاقتصادية التي أبرزها النظام ورسخها لتكون بديلا عن كل معارضيه من الطائفة، والتي تركت أثرا في قواعد الطائفة ونخبها الاجتماعية القديمة وذات الثقل الاجتماعي تاريخيا وقد حملت هذه رؤية معارضة له فيما بعد من دون أدوات، بسبب العزلة المفروضة عليها وبسبب تشكيل موجة تأييد نفعي طالت غالبية المحيطين بها لتبقى معزولة وغير فاعلة ولا تمثل نسبة معتبرة اجتماعيا.  

والنسق الثالث النخبة الحديثة المعزولة والمرفوضة سياسيا والمحاصرة من قبل عامة الأقلية التي أنجز النظام تجييرها لتكون أداة للسلطة والهيمنة، مع رفض قاطع لكل صوت ينقض تلك الصورة التي أريد لها أن تكون جزءا من مسلمات المجتمع الصغير المصنَّع للطائفة.

تضطلع النخبة المثقفة ولا شك بدور تفكيك تلك الصور النمطية والمعسكرة ما يحيلنا إلى إشكالية دور المثقف العربي عموما، وضرورة تجاوز كل ما كان منبته تلك الثنائيات التي رسختها الأنظمة وتعيد ترسيخها قوى دولية إمعانا في تمزيق ما لم يتمزق منا من ترسيخ الفرقة والتناحر بعيدا عن مشتركات وطنية مؤسسة لقيم التشارك والبناء

يروي الكاتب فراس سعد كيف استولد النظام العقيدة المذهبية للطائفة ورعاها عبر مشايخ مؤيدين، وصفى كل من يخرج عن رؤيته في المجال الديني، وكيف حول الحياة إلى حلبة صراع مع الآخر السوري – السني وكيف شيطنه هو الآخر أيضا لتعميق الشرخ مع إيهام الطائفة بأنه حاميها، وخطة استقدامه المجندين الفقراء الذين حرص على الإبقاء على مناطقهم فقيرة معدمة كي يهاجروا إلى دمشق لتشكيل العشوائيات المحيطة بدمشق، من جنود الطائفة وعسكرييها ليبدو مجال الحياة الوحيد لهم ومنبرهم ومجالهم المفتوح على التعيش والارتزاق ليشكلوا جموع التشبيح فيما بعد، قبالة ذلك عزل كل مثقف أو معارض، حتى وصل الأمر بالقول بخطأ حزب العمل حينها في أنه لم يمارس العنف الثوري ضد نظام سفاح ومجرم، أجرم حيناً بحق السوريين وحيناً بحق العلويين أنفسهم باستجلاب فلاحيهم وأمييهم للعمل كحراس له في محيط دمشق وفي قطعات الجيش والمخابرات، أمام ذلك بقيت النخب التي شكلها النظام قارة راسخة بوسائل عدة نهلت من سطوة النظام وقوته، في حين كان المثقف الوطني من أبناء الطائفة معزولا ومشتتا وبلا قوة ولا رصيد اجتماعي يضمن قدرة في التحشيد المضاد، في وسط كهذا يمكن الاعتقاد أن الثورة فيه كانت ثورة نخب شبابية وثقافية بلا رصيد شعبي ولا اجتماعي لأنها، تلك النخب الناشئة المعزولة رسميا واجتماعيا، مثلت حالة ثقافية تجاوزت الفكر التقليدي والذهنية التي بني عليها فكر الأقليات عموما لذا بقيت معزولة عزلة المثقف عن محيطه في سائر المجتمعات غالبا، أو تغرد خارج سرب العامة.

إن المعارضة العلوية للنظام لا بد أن تنهض بوعيها الذاتي ومحيطها ويجب احتواؤها من المحيط السوري لا كجزء تسويقي لمبدأ التعددية، ولا كمعاق يجب التفضل بدعمه بل كجزء مهم من الحل، بل يجب دعمه وسماعه والعمل على رفع صوته، مع مواجهته بأخطائه وعثراته أيضا كشتى أنماط التفكير الأقلوي، أو الانغماس في تمثيل الطائفة في حين أن المطلوب منه تمثيل عموم سوريا، وهي وازنة وإن بدت "مبتسرة" كنسبة بشرية في ظرف عسكرة النظام وتوريطه للطائفة ضمن خطة عسكرة المجتمع ككل، من دون إغفال أن النظام قد شكل ثقافة الطرفين أو مارس لعبة تطويع مخيلة للجميع.  

تضطلع النخبة المثقفة ولا شك بدور تفكيك تلك الصور النمطية والمعسكرة ما يحيلنا إلى إشكالية دور المثقف العربي عموما، وضرورة تجاوز كل ما كان منبته تلك الثنائيات التي رسختها الأنظمة وتعيد ترسيخها قوى دولية إمعانا في تمزيق ما لم يتمزق منا من ترسيخ الفرقة والتناحر بعيدا عن مشتركات وطنية مؤسسة لقيم التشارك والبناء، بعد أن لعبت قوى دولية في تشتيت الأكثرية وحرفها عن مسارها عبر أسلمتها، وفي تجيير الأقلية والنخب الجديدة منها بالتخويف حينا، وبالاستمرار بنهج النظام لعسكرتها أو ترسيخ مفارقتها للمجموع الوطني، ويقع  على كاهل المثقف العلوي الخروج من ذهنية اليسار التقليدية عموما وتصنيفاتها المثنوية، والقفز على عتمة الانجرار وراء العداء للدين واستنفار الآخر والبحث عن مشتركات وطنية واحترام العروبة والإسلام كثقافة ودين غالبية المجتمع السوري، ومثال ذلك صاحب تجربة معتقل صيدنايا العلوي الذي حشره النظام مع المتشددين من الإسلاميين ثلاث سنوات لتصفيته في الزنزانة عبر شريك الرفقة اللصيقة بالأنفاس، غير أنه اقترب منهم أيضا، وها هو يقرؤهم برؤية مختلفة ويعلن علويته اجتماعيا واحترامه الدين، وإقامته شعائر الدين الإسلامي وإقامته للصلاة وفقا لأصولها، كما يعلن علمانيته كذلك، ولا يرى في الإسلام سوى وعاء حضاري يضم الجميع ودينا يحترم ويتبع، ويدافع عنه، وتلك دعوة لسعي الجميع لتشكيل الجماعة السورية -الأمة التي تنظّر لدولة يبنيها الجميع بلا مزايدات أو مناكفات ولا محاصصة.