الكاريكاتير والفكاهة والدراما، وحدود حرية التعبير

2024.04.13 | 07:35 دمشق

62444444444444444444
+A
حجم الخط
-A

بالرغم من الإبداع الغربي في مستوى القيم الاجتماعية والإنسانية العامة، وما حققته الأنظمة لشعوبها، عبر استقرارها ونهضتها الصناعية والعلمية، توهم الكثير بربط القيم العامة بالأخلاق التي تم مواتها مع موت الإله الذي نظر له "نيتشه" فمات، ومن الغرابة أن الكثير اقتنعوا بموت الإله -بقتل مقولاته وأديانه- وبقوا مؤمنين بنيتشه الذي مات ويريدون تخليد مقولته؛ لتعبيد طريق مسيرة الحداثة وما بعد الحداثة. ثم ما لبث أن غزت أنماط جديدة للحياة كرستها سلطتان لا تخضع أي منهما لانتخاب في العالم؛ ولا قيمة للرأي العام حولهما؛ وهما الإعلام ورأس المال، حتى تشكل عالم جديد عبّر عنه "زيغموند باومان" بمفاهيم الحداثة السائلة، والثقافة السائلة، وصولا إلى الحب السائل، في عالم توجهه صناعة الرغبات، فيتحول الفرد إلى مجرد رقم يلهث خلف تحقيق شيء منها.

خلف هذا التوهم الذي يحترفه ويجتره الكثير من رواد الثقافة العربية، ومفكرينا المعاصرين، نجد الكثير من التسليم بما أنجزه الغرب (القوي، المتحضر، الحداثي)، وإن كان بدافع الغيرة ورغبة التطور والتحديث، وقد وقعوا في فخ المقارنة بين حضارتين؛ حتى صار من المسلم به والضروري أيضا ألا قيمة لمثقف دون جلد ماضيه، أو التغني بكل منجز وافد غثا كان أم سمينا، ليس الأمر متعلقا بالمنظومة الغربية في العلم والاقتصاد وآليات التفكير المنتمية لسياقاتها الخاصة؛ بل حتى بالقوالب الجاهزة المستوردة لاستخدامنا والتجريب فينا، حتى إن طرح مبدأٍ، أو قيمة، أو أخلاق، لا قيمة له ما لم يتسق مع نسق غرب متحكم، يمنحه شهادة الاعتراف، وقد غاب عن الكثير أن الحضارة الإنسانية في مستوى الأفكار تتبادل وتتشارك، ويمكن لأي منها أن يضيف شذرة في لوحة عطاء إنساني عام كحقوق الإنسان ومنها حق التعبير.

لاشك في أن التعبير حق مشروع مثله مثل حق الفرد باعتناق ما يريد من دين ومعتقد، ولايغيب عن أحد أن "حدود الحرية جزء من ماهيتها" مما يعني سقوط مقولة القبول المطلق بكل طرح دون وازع يضبطه، بما في ذلك السلطة التي تحتاج لمن يروز علمها ويراقبه، وحق المجتمع في رقابته عبر مؤسساته بذلك، حيث لكل نزوع أو رغبة حدود تقع في اشتراط عدم إضرارها بالمجتمع والدولة والإنسان عموما، وغياب ذلك في بلدانا عائد لأنظمة الحكم الوظيفية؛ ولا ارتباط له بدين هذه الدول ولا أصلها، وعلى من يقول بتقدم الغرب علميا، وقيميا، لدرجة ضرورة التسليم المطلق بكل وافد؛ أن يتذكر أن روسيا جزء من العالم الأوروبي وكانت قبل أمس ماركسية؛ حتى حمل الشيوعيون في عواصمنا المظلات إذا أمطرت هناك، فما الذي تغير لنرى موسكو الروسية وليس السوفييتية؛ تعلن ومن موقعها كغرب آخر -مسيحي وقوي بآن- يقع على يمين المتجهين غربا؛ أن قيم أوروبا وأميركا لا تناسبها؛ فهي ترفض جل طروحات الجندر والنسوية والشذوذ الذي تعاقب به قانونيا، لينبجس لدى الباحث سؤال هل ينبع توجه ثقافتنا المصفقة الترويجية من موازنة حقيقية بين ما يطرح غرب الهيمنة والتكريس والتمويل؛ وغرب مشرقي تمثله روسيا؟ أم أن الأمر متعلق بمراكز دراسات وثقافة تكرس الهيمنة وتحترف التمويل؟ ذاك سؤال برسم يسارنا "العتيد".

ما قيمة أن نصرخ بوجوه بعضنا من دون مساحة للحوار، رغم أحقية الجميع بالدخول في جدل بيزنطي عقيم أيضا..؟

في عودة إلى حرية التعبير التي جاءت غالبا للتعبير عن رأي مخالف؛ ضمن شروط موضوعية لوجودها في مساحة رأي لصنع ثقافة مشتركة، لضمان تحاور ثقافات ضمن مجال محدد( دولة، مجتمع، جماعة بشرية) اتسعت لتشمل تلاقحا أو تناظرا في الأفكار والرؤى والرغبات، على قاعدة الاحترام المتبادل للمختلف فكريا، سياسيا، ثقافيا، ولعل نقطة مهمة يمكننا تلمسها في تلك المجالات، هي فتحها آفاق التعبير ضمن شروط تكفل حق طارحها، وحق الرد عليها بنفس تلك اللغة وأدواتها وسويتها؛ وتقوم القوانين والأعراف بتكفل ذلك منعا لنزوع الأفراد والجماعات من الخروج عن تلك الضوابط؛ التي قد يؤدي الخروج عنها إلى التضاد والتنافر والاقتتال، وهو ما تنص عليه قوانين الدول بضرورة عدم المساس بالقانون العام ولا باستقرار النظام الاجتماعي للدولة، في مساحة تقبل مناقشة ما تم طرحه من أفكار وتقبل الرد والحوار، فما قيمة أن نصرخ بوجوه بعضنا من دون مساحة للحوار، رغم أحقية الجميع بالدخول في جدل بيزنطي عقيم أيضا..؟ تبدو هنا ساحة التعبير مشهرة شاسعة مفتوحة على الطروح والردود عليها وضبطها بالتدافع بين القوى وفقا لضوابط الدولة القانونية والأعراف وأخلاق الحوار كذلك، لكن ثلاثة منها تخرق النظام العام في أي مكان؛ وكفيلة بتحويل النظام الاجتماعي للعبة متناحرين؛ لا يفصلهم عن الاقتتال والتناحر سوى عصا القانون بعيدا عن أي خلق أو إبداع فكري أو ثقافي، وهي الفكاهة، رسوم الكاريكاتير، والدراما.

هل يمكن لمثقفنا العربي أن يستقل ويمحص حرية التعبير بين القيمة المعرفية وسطوة الهيمنة؟

انتبه الغرب المقدس أخيرا للفكاهة عندما تضم التهكم على الآخر؛ وعبر عن رفضه قانونيا للتنمر باعتباره فعلا غير قانوني، وقابله مثقفونا ببلاهة التصفيق والتوثين لكل قادم سواء كان صائبا كهذا، أو عاطلا كالشذوذ الذي ترفضه دول كثيرة ريثما يبت به، في حين أن احتقار الدين الذي تكفل منعه شرعة الأمم، وحقوق هذي الدول تم إغفاله عمدا وبات بحاجة لتعقيدات قانونية تفرغه من محتواه، يمكن أن نضع بين أيدي مثقفي العطالة العربية لنخرجهم من بؤس الانتظار مفاهيم جديدة إذ يرى الكثير أن رسوم الكاريكاتير فن يحق لصاحبه عرض ما يريد، متغافلين عن حدوده -التي هي جزء من تعريفه وماهيته- غياب مجالات رد الفعل الذي يضبطه أو يتدافع معه، فالفكرة المطروحة في ميادين الثقافة والسياسة والأدب والدين وحوارات المذاهب لها الفكرة التي تدحضها أو تناقضها في حجاج ثقافي وعقلي، وقد حفل به تاريخنا منذ المعتزلة والكلامية قبل قرون، وشهدته حاضرا ساحات دولنا المسلمة في النقاش بين مسيحيين ومسلمين، دون أن يخرب ذلك آفاق التشابك والتواصل بين شعوبنا من أبسط القرى حتى أعرق المدن، لكن اختراع الفكاهة- النكتة التي لا تقبل ردا إلا بأخرى ضدها يفتح مجالات التسابق للتهكم على الآخر ودحضه بطريقة دعائية لا قيمة عقلانية تضيفها، سوى تفريغ طاقة وتنفيس عقد؛ أو شحذ طاقة حقد ونقمة وفتح مجال التنابذ، أما في رسوم الكاريكاتير التي تنشرها صحيفة ما، فلا تتسع ساحتها المطروحة فيها ردا لمجرد أن الصحيفة ليست مفتوحة للردود، كما أنها لا تخرج عن كونها محاولة مبتدعة تحمل شحنة مبالغة زائدة على مبدأ "أعذب الشعر أكذبه"، لتركيز بؤرة النظر على صفة ما لدى الآخر دون أن تسمح له بالرد؛ وإن سمحت برد سيكون الأمر كسباق الإضحاك والتهكم الذي أثبتنا عقمه، بل يتصف بقدرته على تأجيج الكثير من الاحتقان بين الأطراف، تأتي الدراما لتكون كذلك فهي قد تطرح قيمة ثقافية وخلق تسامح وتستفز طاقات إيجابية في المجتمع، في حين عند نزوعها التصيد، والمشاكلة، والفضائحية، أو الاحتطاب من التاريخ لإنجاز عمل درامي تحت شعار حرية الفن؛ مع اختلاسه شارات تاريخية والبناء عليها لإثارة النعرات في المجتمع فهي تسقط من المساحة التي تضم حرية التعبير المحدودة بحق أعلى منها وهو احترام الثقافات والنظام العام لأي دولة، أو عرف جملة شعوب متجاورة، ويجرد الفن من رسالته. ويخرج المسرح عن تلك النقاط في سردنا السابق لمجرد أن أي عرض مسرحي أمام جمهور يتسع لرد فعل الجمهور بالاحتفاء به أو إفشاله، فهل يمكن لمثقفنا العربي أن يستقل ويمحص حرية التعبير بين القيمة المعرفية وسطوة الهيمنة؟ أو يغرب شرقا لئلا نتناحر بيننا وفقا لما يرسم لنا؟ لعل قومي يسألون.