جناية بوتين على روسيا

2022.10.07 | 06:17 دمشق

جناية بوتين على روسيا
+A
حجم الخط
-A

في خضم التفكير في ماركس وقولته الشهيرة عن تكرار التاريخ لنفسه مرتين، وكيف أنه في المرة الثانية يعيد نفسه في سخرية ظاهرة، نشاهد فلاديمير بوتين وهو يرغب في بدايات عقده الثامن من العمر، وبعد أن استقر له الوضع ولم تسمح له السنون سوى أن يكون رئيساً من أولئك الذين يدخلون القصور الجمهورية ولا يخرجون منها إلا على ظهورهم، نشاهده وهو يرغب في تكرار مسيرة بطرس الأكبر مؤسس التوسع الروسي الإمبراطوري الكبير، وكيف انتهى الواقع به مقلداً الرئيس صدام حسين، بغزوه الكويت 1990.

لم يعد مقبولاً أن تشن حرباً بشكل منفرد على دولة ما، حتى لو كانت هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأميركية

وما بين غزو بطرس الأكبر لدول الجوار الروسي في القرن السابع عشر، وغزو صدام حسين لدولة الكويت في القرن العشرين، تغيرت الدنيا والواقع الجيوسياسي بشدة، فبات تغيير الحدود بين الدول الموقعة على اتفاقية احترام الحدود الدولية يحتاج توافقاً دولياً، يسمح بهذا، حيث لم تعد القوة العسكرية تعني شيئاً، بل باتت عبئاً وثقلاً على من يحصل على قوة عسكرية هائلة ولا سيما النووية، فبالمقارنة مع القوة الاقتصادية الناتجة من قوة الاقتصاد المحلي لأي دولة، أو قوة القبول التجاري العالمي والقدرة على تسويق المنتجات والثروات والقبول في المجتمع الدولي باتت هي القوة الحقيقية التي تؤخذ بعين الاعتبار، فالعالم تغير والتعداد السكاني بات مرعباً، وعملية إطعام الشعوب صارت أهم من الأحلام الإمبراطورية لفرد، أو أهم من تنسيق عصابة ما مؤلفة من خمسين شخصاً لعملية سرقتها لمقدرات دولة ما، مثلما يحدث في دويلات الشرق الأوسط.

لم يعد مقبولاً أن تشن حرباً بشكل منفرد على دولة ما، حتى لو كانت هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأميركية، وغزواتها السابقة في دول العالم، والدليل أن جميع الدول الرافضة للغزو الأميركي سعت ونغصت يوميات هذا الغزو وأحالت استمراره إلى الماضي.

لكن الإنسان واهم، وهذا هو ديدنه مذ خلق، فهو يرتكب الأخطاء التراجيدية في أصعب لحظات مسيرته، التي حرص فيها على ألا يرتكب أي خطأ ولكنه في النهاية يفعل، وتكون سقطته التراجيدية.

وهذا بالتحديد ما حصل مع بوتين، الذي حاول التقرب ما استطاع إلى دول الغرب وأطلق تصريحات وخطط اقتصادية تجعل روسيا دولة متقدمة مثل دول الغرب، ولكنه أراد أن يعبث بالمفهوم الأوروبي، الذي لا يقيم وزنا للحاكم في مقابل وزن الدولة، فأراد أن يلعب لعبته وفقاً للقواعد الشرقية، بأن يأخذ منهم كل شيء دون أن يستمع إليهم في أي تفصيل متعلق بالحريات أو الديمقراطية أو الشفافية أو مكافحة الفساد ومواجهة اليمين المتفاقم لديه، فحصل على عقود تطوير للاقتصاد، واستثمارات هائلة، حتى تغير واقع الفرد الروسي بالفعل من لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وحتى لحظة غزو أوكرانيا، وكل هذا بفضل بوتين، ارتفع مستوى دخل الفرد، وارتفعت القوة الشرائية للروبل، وتعززت البنية التحتية للبلاد، وتطورت بشكل كبير.. ولكنه أراد أن يعبث.. فسقط ضحية الغلط التراجيدي بأن حارب نفسه، حارب دولة أوكرانيا، التي منها انطلقت القومية الروسية، فبات كمن يطلق الرصاص على قدميه، فمن المعلوم أنه يمكنك جر الحصان حتى الماء، ولكن من الاستحالة أن تجعله يشرب.. وهذا إن انطبق على أحد فهو سينطبق على الشعب السلافي الذي بات يعاني الأمرين من الحكم الدكتاتوري في روسيا وفي بيلاروسيا..

فبفضل قصر النظر لدى إدارة بوتين وخصوصاً وزير الخارجية العنيفة سيرجي لافروف، ووزير الدفاع شويغو وكذلك اليميني الشوفيني الأرثوذكسي ميدفيديف، أصبح الصراع اليوم في داخل البيت الروسي نفسه، داخل البيت السوفييتي السابق، أو بين ناطقي اللغة الروسية وابنة عمها الأوكرانية، بعد أن كانت كل هواجسهم تنحصر في إبعاد الخطر بعيداً عن حدود البلد..

يعتمد بوتين بفضل قصور لافروف ودوغين، على إلغاء الغرب، والخضوع لعقوباته القاسية، في مقابل أحلامه الواهمة في بناء عالم متعدد القطبية

تماماً كما فعل الرئيس صدام حسين حينما أراد حماية الأمن القومي العربي والعراقي، باحتلاله الكويت، فانقلب الحال عليه ليصبح غزوه هذا البلد الصغير وبالاً، نقل المعارك إلى داخل بلده.

كان بطرس الأكبر، مجدداً وحالماً رغب في قرارة نفسه أن يجعل من موسكو وروسيا بلداً شبيهاً بالغرب المتحضر، كما كان يراه، فسافر إليهم وعقد معهم التحالفات والمعاهدات وانتقل إلى توسيع الأراضي الروسية وصولاً إلى المياه الدافئة.

بينما يعتمد بوتين بفضل قصور لافروف ودوغين، على إلغاء الغرب، والخضوع لعقوباته القاسية، في مقابل أحلامه الواهمة في بناء عالم متعدد القطبية، ونظام عالمي جديد، ناسياً أن من يدعي أنه سيبني نظاماً عالمياً جديداً يجب أن يقدم بدائل أفضل من التي يقدمها الغرب، من الاقتصاد إلى الترفيه والتكنولوجيا والطب، وليس العكس، بأن يقدم نموذجاً يعتمد على القمع والخوف والتهجير والكراهية.