النتائج الواسعة لهيمنة السلطة الأسدية على الدولة

2022.01.17 | 06:06 دمشق

ttb6.jpg
+A
حجم الخط
-A

أستخدم مصطلح الدولة هنا للإشارة إلى شكلها الحديث وبمعنى إجرائي. أي بوصفها هيئة عامة ضخمة تنضوي تحتها مؤسسات عديدة؛ عسكرية وأمنية وقضائية وتعليمية واقتصادية وخدمية صحية... إلخ. ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن تكون محايدة تجاه الصراعات السياسية الداخلية.

وقد قيل الكثير عن تحكم السلطة الأسدية بالدولة السورية وتداخل الحدود بينهما، لكن ذلك لم يُستخدَم لبيان عِظَمِ المعركة غير المتكافئة التي خاضتها الثورة مع النظام regime الذي استغل أنظمة الدولة systems واستغل كل إمكاناتها للصمود في وجه معارضيه.

كان على الفصائل المعارضة أن توازن بين مجموعة من الخيارات السيئة للحصول على التمويل

الجزء الأوضح من نتائج هذه الهيمنة عسكري. وقد تجلى في استثمار ترسانة كبيرة من عتاد القوات المسلحة في قمع الاحتجاجات، بدءاً من القتل المباشر بالبنادق وصولاً إلى طائرات الميغ، على يد جيش كان، عندما بدأ معركته المحلية، من الأكبر عدداً في المنطقة وخارجها. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن ذلك لم يكن ممكناً لولا نظام التجنيد الإلزامي المعمول به حتى الآن، والذي يستمد شرعيته القانونية من أنظمة الدولة، بالإضافة إلى قوانين القضاء العسكري التي تطول المنشقين عن الخدمة أو رافضي تنفيذ الأوامر. وذلك بالتوازي مع الاستخدام، المتسع النطاق، للأجهزة الأمنية التي تشغل مقارَّ ذات ملكية عامة وتشغّل متطوعين ومخبرين، وفصائل خلال الثورة، بالاعتماد على رواتب حكومية. وفي المقابل كان على الفصائل المعارضة أن توازن بين مجموعة من الخيارات السيئة للحصول على التمويل؛ الدعم الخارجي بما يصحبه من ارتهان أو «توافق» على الأقل، أو الاستثمار غير القانوني، بوصفها قوة أمر واقع بشرعية اعتراضية، للموارد العامة تحت سيطرتها كالنفط والغاز وأراضي الدولة ومستودعاتها وممتلكاتها، أو اللجوء إلى وسائل ابتزاز كخطف الصحفيين الأجانب.

ما واجه العسكريين عانى منه مدنيو الثورة أيضاً. يعرف هذا من سلك الدروب السيزيفية في المجالس المحلية، وفي مؤسسات معارضة وليدة أخرى، لبناء مكتب تربوي أو صحي... إلخ. في حين يسيطر النظام على وزارة تربية موحدة ومستقرة مركزياً، تتبع لها شبكة ضخمة من المدارس في إطار هرمي واضح، ومديرية للمناهج ورثت خبرات متراكمة غذّتها الدولة السورية منذ الاستقلال، وجهازاً من العاملين من الأكبر عدداً في البلاد، وفق اختصاصات منظمة ومعايير توظيف واضحة شكلياً ومطبّقة عملياً باستثناءات قليلة. في حين أن تنظيم العمل التعليمي في المناطق المحررة يحتاج إلى جهود من الصفر في كثير من الأحيان؛ تعديلاً للمناهج الموجّهة سياسياً أو استبدالاً لها، واختياراً للمعلمين المؤهلين فعلاً، وترميماً للمدارس المقصوفة أو اللجوء إلى بدائل، وبحثاً عن ممولين للرواتب الزهيدة للعاملين والمصاريف المحدودة. ولا يبتعد «الدعم» المطلوب هنا عن المحاذير التي تحيط بأي تمويل؛ توجيهاً أيديولوجياً ما، أو تقطعاً وتقلباً بحسب الطبيعة القصيرة الأجل للمشاريع، وطرقاً حثيثاً ودؤوباً على إيميلات المنظمات والوقوع في إسار بيروقراطيتها، وأحياناً فسادها.

ما أمكن قوله عن هذا القطاع نستطيع سحبه على كلّ مستلزمات الناس في ظل «الحرب». الصحة التي تحتاج إلى شبكة مشاف وأطباء وصيادلة باردة، وشبكة ميدانية استثنائية، بينما تتعرض مراكزها للقصف. والمخيمات التي تحوي مليون نازح وتحتاج إلى صيانة وطرق وخدمات، إن لم نقل إلى بناء حلول بديلة تبدو شبه مستحيلة الآن. ونسبة فقر يصعب تحديدها تجعل السكان في حاجة مستمرة إلى سلل الإغاثة، ونسبة بطالة مرتفعة تستلزم إقامة مشاريع في بلد من الأشد خطورة في العالم. ويحيط بكل ذلك تعدد الآراء واختلاف الولاءات وهشاشة التراتبية، مما يعسّر الاتفاق على أي شيء. إذ ليس للديمقراطية في حالة ما قبل الدولة وصف أفضل من «الفوضى».

صحيح أن شرعية النظام قد أصيبت بأذى لا يمكن إصلاحه، لكن الصحيح أيضاً أنه ما يزال يمسك بورقة الشرعية الرسمية رغم اهترائها

يهدف كل ما سبق، من استعراض صورة معروفة للكثيرين، إلى أخذ إمكانات الدولة في الاعتبار عند المقارنة بين النظام والمعارضة، وإلى الإشارة إلى عِظَمِ تأخر عملية الانتقال السياسي. صحيح أن شرعية النظام قد أصيبت بأذى لا يمكن إصلاحه، لكن الصحيح أيضاً أنه ما يزال يمسك بورقة الشرعية الرسمية رغم اهترائها. وهو ما أتاح له استدعاء حلفه العسكري الروسي والإيراني والفصائلي، وزج الشبان السوريين من مختلف المناطق في حربه المدمرة بالتجنيد، والاعتماد على جهاز وظائفي كبير وموروث ومنظم إدارياً لتسيير شؤون الخدمات والصحة والتعليم، وتغذية جيش من الموظفين برواتب من خزينة الدولة. ورغم ذلك فقد شارفت الموارد على النفاد بعد عقد من استنزافها.

أما المناطق المحررة فتتدبر أمرها بالجملة بالطريقة نفسها التي يسلكها أبناؤها فرادى. وفي أثناء ذلك يتناطحون على ما أمكن تحصيله، متبادلين اتهامات شرسة بالفساد والاستئثار والمحسوبية واستغلال الموارد العامة والمعابر والتهريب. رغم أن موارد ذلك أقرب إلى أن تكون فتاتاً بالقياس إلى حاجات مناطق تحوي خمسة ملايين من السكان، وبالنظر إلى حصتهم الغائبة من الدولة التي أقصاهم بشار الأسد عنها واستخدم إمكاناتها لمحاربتهم.