الموت السوري الجميل

2020.04.15 | 00:02 دمشق

almwt_alswry.jpg
+A
حجم الخط
-A

“نحن هنا مجرد أشباح تتحرك، لا يظنن أحد منكم أننا نحيا ولا تنتظروا منا ما عجزتم عن فعله فقررتم الرحيل، كل ما في الأمر أننا نتنفس وننتظر أن تسعفنا رصاصة رحمة ربما لن نكون محظوظين كفاية لتلقيها".

ما تزال حشرجات ما تبقى من السوريين في الداخل تصل إلى أسماعنا متقطعة الأنفاس، حتى إن أكثرهم بات يعتقد أن الموت أصبح جزءاً من الرفاهية المحرمة عليهم، ومنهم من بات يعتقد أن وجوده في الحياة أوعدمه على حد سواء.

لقد تداخلت الأصوات القادمة من الداخل السوري ولم تعد واضحة، وباتت تظهر أكثر يأساً بعد كل ما حل بالبلاد من كوارث وأحداث.

أظهر تعامل السوريين مع الوباء المنتشر في العالم لا مبالاة شديدة تجاه فرضيات الموت وسيناريوهات الحياة غير المتاحة، وكان مثالاً واضحاً على انعدام الأمل وعدم أهمية وجوده حتى بالنسبة إلى شعب تجرع من الموت أصنافاً مختلفة عبر سنوات.

وباتوا يصورون لأنفسهم قصصاً ويتناقلون روايات تفيد بأن من تحمل كل هذه السنوات من الحرب لن يقتله فيروس لا يشبه في اعتقادهم إلا شبحاً خرافياً لا يصدقون وجوده، إذ إنهم شهدوا من آلات القتل ما هو أكثر حقيقية ووحشية من مجرد فيروس يتطاير في الهواء على غير هدى ويختار ضحاياه بعشوائية غبية على حد زعمهم.

الموت هناك ربما ليس سيئاً إلى تلك الدرجة التي نخشاه فيها هنا في الطرف الآخر من العالم، لقد كان صديقاً طيباً في بعض الأحيان أنهى آلام كثيرين ممن طالت معاناتهم وقطع بالنسبة إلى آخرين حبالاً وهمية من أمل كانوا سيلقون حتفهم بسببه، لقد كان نهاية جميلة لحياة بائسة ومظلمة.

هكذا عبرت صديقة عندما حاولت الاطمئنان عليها بعد أن انتشرت الجائحة واخترقت حدود العالم، بينما ضحكت جدتها ذات الثمانين عاماً وهي تقول لي بلهجة عامية جميلة: "لقد أصبحتم أكثر هشاشة مما كنتم عليه حين كنتم صغارا، شدوا حالكن شوي".. 

في قرارة نفسي كنت أفكر أنهم على حق تماماً، فكيف لنا أن نعول على من تركناهم داخل قضبان السجن الكبير، وكيف نعتقد أنهم سيخافون أيضاً من شبح لم يرونه بينما شاهدوا وحوش العالم بمختلف أشكالهم أمامهم.

خمسة عشر يوماً من العزلة كانوا كفيلين بأن يظهر الكائن البشري منا أسوأ ما لديه في سبيل إرواء غريزة البقاء والحفاظ على السلالة

أما نحن من نسكن في الطرف الآخر للعالم مثلما قد صنفونا، فإن خمسة عشر يوماً من العزلة كانوا كفيلين بأن يظهر الكائن البشري منا أسوأ ما لديه في سبيل إرواء غريزة البقاء والحفاظ على السلالة، سواء من ناحية السلوكات الفردية التي حاولت احتكار المواد التي من الواجب تشاركها، أو على صعيد السلوك الجمعي غير الواعي الذي بدأ يروي قصصاً مرعبة عن نهاية العالم والتعلق بالخرافات، أو من ناحية الدول التي بدأت تمارس قرصنة غير قانونية في الاستيلاء على معدات مرسلة إلى دول منكوبة.

في هذا ربما ما يبرر عدم تعاطف الشعوب مع موتنا الذي استمر كل ذلك الوقت، إذ يبدو أن بني الإنسان ينزعون إلى تحقيق متطلباتهم الفردية أكثر من الجماعية منها، وأن كل ما سمعناه وقرأناه عن التعاون والحياة الجماعية كان مجرد حوارات فضفاضة، علاوة على المجاهرة بالعنصرية والفوقية التي كان أقل ما يمكن لفاعلها فيما مضى أن يشعر بالخجل.

لا عزاء لنا إذاً نحن السوريين وقد أمضينا سنوات من الحجر والعزلة، من دون أن يرف لأحد جفن أو يفكر فينا قبل أن ننام، فالبشرية العظيمة التي تتباهى بأخذ اسمها من البشر تبين أن أسوأ ما أنتجته هو البشر أنفسهم.

العالم في وادٍ ونحن في وادٍ آخر، سوريا الوحيدة اليوم وأقصد هنا سكانها المنسيون، وأصوات مدنها المنسية، باتت تشبه نقطة غير مرئية على خريطة يتهافت أناس في كل أطراف العالم على قضم قطعة منها.

لقد تجاهلت الأخبار المتواترة والمتلاحقة ألم السوريين الذين هربوا باتجاه الحدود للوصول إلى حلمهم الأوروبي وانشغلت بما هو أهم، وبات ضرباً من الترف التفكير بألم العالقين في الخيام.

فالكوكب التعيس يصارع من أجل البقاء ويستخدم في ذلك الطرق المشروعة وغير المشروعة لتحقيق هدفه في الإطالة بعمره.

نحن السوريون صارعنا أيضاً من أجل البقاء، لكننا لم نكن على قدر من الأهمية ليعترف العالم بحقنا في الصراع من أجل النجاة في معركة الوجود أمام همجية باتت تستخدم كل الأسلحة للقضاء على وجودنا.

لن نسأل في هذه المرة لماذا غض العالم بصره عن موتنا المستمر من البرد ومن الجوع أو بواسطة وباء ومن غيره، ولماذا استباح إخوتنا في الدم دمنا ولم يعنهم ألمنا؟ فالإجابة باتت واضحة للقاصي والداني، ولم يعد من المعيب أن يقول قائل أن البقاء في هذا العالم للأقوى وكل ما عدا ذلك من خطب عصماء ورنانة في الأخلاق وعلم الإنسانية لم يكن إلا ضرباً من ضروب الخيال لتجميل اللوحة الباهتة.