المقدَّسات الدينية من القدسية إلى مادة ربحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي

2023.07.13 | 05:54 دمشق

المقدَّسات الدينية من القدسية إلى مادة ربحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي
+A
حجم الخط
-A

وفقاً للمقولة التي تُنسب لسقراط "تكلَّم حتى أراك"، تابعت تسجيلاً مطوَّلاً عبر الفيس بوك للشاب (سلوان موميكا) الذي أقدم على حرق القرآن الكريم في أوَّل أيام عيد الأضحى أمام جامع استوكهولم  الكبير في السويد، كان واضحاً وجلياً بأنَّه يعمل على استفزاز الناس جميعاً وليس فقط المسلمين من خلال لغة جسده، وأسلوبه في الحديث، وتعمُّده استخدام صيغة الجمع الموجَّهة للمخاطب "أنتم" لتشمل أهل بلده العراق خاصة، ثم المسلمين جميعهم عامة، وهو لا يهاجم المسلمين فحسب، بل يهاجم كلَّ من يمتلك معتقداً يؤمن به وبقدسيته معلناً بأنه إنسان ملحد لا ينتمي لأيِّ ديانة سماوية أو غير سماوية.

في الحقيقة مَنْ يتتبَّع كلام هذا الرجل لا تتغيَّب عنه الكمية الكبيرة من التناقضات التي يوردها في معرض كلامه، وربما يعود ذلك إلى التزعزع في الانتماء، فمن زعيم لميليشيا تمولها وتدعمها إيران يُطلق عليها (كتائب الإمام علي) التابعة لتنظيم الحشد الشعبي إلى انخراط بميليشيا بابليون المقربة من إيران، إلى ملحدٍ بكلِّ الأديان، والطامة الكبرى في فهمه للإلحاد، فالإلحاد على عكس ما يدَّعيه موميكا بوصفه مالكاً للحرية – ولست امتدحه أو أشجعه – هو نمط من التفكير الذي توصَّل صاحبه إليه نتيجة اعتقاده بعدم وجود إله لهذا الكون، وهي نتيجة آمن بها صاحبها بعد بحث وتأمُّل، وقام باتِّباع منهجية معيَّنة تقوم في أساسها على حرية الرأي التي تفرض عليه أن يتقبَّل الرأي المختلف عنه، ويتقبَّل أيَّ حوار يختلف معه، من دون أن يسيء لصاحب هذه الرأي، وهذا ما يخالف ما شاهدناه في الفيديوهات المعروضة والتي تحتوي على كمية كبيرة من التهجُّم والاستفزاز والاستهزاء والسخرية، وينسحب كلامنا على جميع الفيديوهات التي بثَّها في وقت قصير وعلى عدد مختلف من وسائل التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تيك توك، يوتيوب،...) منتهكاً مقدَّساً دينياً على الملأ ليكون القرآن الكريم هو المحتوى الأساسي للفيديوهات التي شاع انتشارها من دون رقيب أو حسيب.

الانتهاكات التي نراها اليوم هي شذوذ قيمي، والخوف أن يصبح هذا الانحراف الخلقي هو السائد والمسيطر؛ لكثرة تداوله، أو لكونه يمارس من قبل المشاهير الذين يعدون في يومنا هذا هم المثل الأعلى في المجتمع

ممَّا لاشك فيه بأنَّ منصات التواصل الاجتماعي فتحت الباب لصنَّاع المحتوى للوصول إلى الشهرة وكسب المال، بغضِّ النظر عن المحتوى الذي يقدمونه، وبالطبع إنَّنا لا ننتظر من هذه المنصَّات أن تقدِّم لنا حدوداً للقيم التربوية والأخلاقية التي يجب على الإنسان أن يلتزم بها كلٌّ بحسب ثقافته، إلا أنَّنا نعرف أنَّ جميع الثقافات تتَّفق على احترام الأديان بمقدَّساتها، وأنَّ الانتهاكات التي نراها اليوم هي شذوذ قيمي، والخوف أن يصبح هذا الانحراف الخلقي هو السائد والمسيطر؛ لكثرة تداوله، أو لكونه يمارس من قبل المشاهير الذين يعدون في يومنا هذا هم المثل الأعلى في المجتمع.

وقد ترافقت الأيام القليلة الماضية مع مناسبة دينية كبرى وهي أداء الحجَّاج لمناسك فريضة الحج، والحج عبادة يؤديها المسلمون كأيِّ العبادات الأخرى تقرُّباً من الله تعالى ورغبةً في أن يغفر الله الذنوب التي يقترفها الإنسان بعيداً عن الرياء والتمظهر، لكنَّ الفيديوهات التي صرنا نراها على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدة كلَّ البعد عن مفهوم العبادة التي يشترط فيها جميعاً التستر والابتعاد عن الرياء، فمناسك الحج أصبحت مواقع جذَّابة للبثوث المباشرة التي تستجلب مشاهدات عالية وتفاعلات لا حدود لها، ومادة ربحية قيمة تعود بالمردود المادي على صاحبه، على اعتبار أنَّ صاحب البثِّ في موقعه الحالي قريب من الله تعالى جسداً وروحاً.

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تعج بصور الفنانين والفنانات بفيديوهاتهم وتسجيلاتهم من داخل الحرم المكي وأثناء تأديتهم لفريضة الحج، ولا أدري إن كانت هناك غاية نبيلة من وراء هذه الفيديوهات غير الرغبة في الشهرة والحصول على الترندات وحصد اللايكات والمشاهدات، كالفنانة السورية سوزان نجم الدين التي التقطت لنفسها صوراً توثِّق حالة روحانية خاصة أثناء الدعاء، ولكنَّها للأسف نسيت وجهتها وكانت تستقبل الكاميرا وتدير ظهرها للكعبة المشرفة، أو ذلك الذي اعتلى السور الحجري ليلتقط صورة سيلفي مع الشيطان في موقع رمي الجمار، وفيديو آخر لرجل يقوم بالبث المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهو يراقب التفاعلات وعدد المتابعين أثناء أدائه لفريضة الحج. وقد كانت وزارة الشؤون الإسلامية في السعودية منعت في وقت سابق تصوير الصلوات في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف أو بثها على وسائل التواصل أو الإعلام.

هل يمكن لهذه الوسائل أن تكون اليوم عاملاً مساعداً على الانحراف الثقافي الذي يتجلَّى اليوم في انتهاك المقدَّسات علناً؟ وهل يمكننا ضبط هذه الوسائل وتحويلها لتكون عنصراً إيجابياً في حياتنا

ختاماً، لا يمكننا إغفال دور منصات التواصل الاجتماعي وأهميتها في حياتنا المعاصرة، وقدرتها على إحداث التحولات الكبرى في سيرورتها، لكن هل يمكن لهذه الوسائل أن تكون اليوم عاملاً مساعداً على الانحراف الثقافي الذي يتجلَّى اليوم في انتهاك المقدَّسات علناً؟ وهل يمكننا ضبط هذه الوسائل وتحويلها لتكون عنصراً إيجابياً في حياتنا وعدم الانجراف في حالة من التبعية لهذه التكنولوجيا؛ لأنها تحولت إلى سلطة أيديولوجية يكون الإنسان مادتها بحسب تعبير هربرت ماركيوز حين قال في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد): "إنَّ المدنية التقنية أصبحت هي الأيديولوجيا بهدف الالتزام بالواقع المُعطى ونبذ المفاهيم النقدية ليتحول هذا العالم إلى عالم كلي استبدادي عن طريق تزييف وعي الفرد".