العالم الافتراضي بين الحضور والتغييب السلطوي

2023.03.31 | 06:02 دمشق

العالم الافتراضي بين الحضور والتغييب السلطوي
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام تداولت وسائل التواصل الاجتماعي صورة للرئيس الروسي (بوتين) يظهر فيها منحنياً يقبِّل يد الرئيس الصيني (شي بينغ) خلال زيارته الأخيرة للصين، ولكن سرعان ما تبيَّن أنَّ الصورة مزيفة، وتمت منتجتها باستخدام تقنية الذكاء الصناعي، وقبلها بأيام انتشرت صورة لفتاة تلبس لباس الإحرام وتطوف بالكعبة المشرفة بين الرجال، وكذلك تبيَّن فيما بعد أنَّ الصورة مفلترة تمَّ تطبيقها باستخدام أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي ليحوِّل صورة الشاب إلى فتاة، وغير ذلك كثيرٌ من التشويهات التي طالت هوية الإنسان عبر هذا الفضاء، وما يحويه من كمّ هائل من المعلومات المغلوطة التي لا تخضع لرقابة، الأمر الذي يضع هذا الجيل والأجيال المقبلة على المحك في رحلة بحثهم عن الحقيقة التي يجب أن يصلوا إليها، والسؤال يبقى، كيف سيكون مستقبل الأجيال المقبلة في ظلِّ سياسة الإفراغ والتشويه هذه؟

أولاً: حضور الذات عبر الفعل التواصلي:

تُمثل وسائل التواصل الاجتماعي عالماً ممتداً بين الأفراد يضيف إلى العالم الذي نعيشه بإشكالياته وتفاعلاته بُعداً زمانياً ومكانياً، هذا البعد جعل المستخدمين له يعبِّرون عن ذاتهم عبر ممارسة الفعل التواصلي مع بقية الأفراد في هذا العالم، وقد يكون سلوكهم التفاعلي مبتكراً لم تتمَّ ممارسته من قبل، وذلك لتحريم المنظومة الدينية له، أو لمنعه من السلطة السياسية أو الاجتماعية وغيرها من الأيديولوجيات الموجودة في المجتمع، أو بسبب خضوع تلك البرامج لبنية ذهنية مختلفة عن ثقافتنا وهويتنا، لذلك فإنَّ ممارسة الأفراد لأفعال خارجة عن النسق في الغالب لا تشكل عائقاً؛ وذلك لاتسام هذه الممارسة بالطابع الديمقراطي الذي يحفز الذات للحضور ولإنجاح العملية التشاركية من دون قيد أو شرط.

لقد أصبح الفضاء التشاركي الحر بين الأفراد أكثر تطوراً في السنوات الأخيرة، وشهد ثورة رقمية هائلة غيَّرت مفاهيم التواصل وقيمه، وجعلته أكثر انفتاحاً وضماناً للتعدد الثقافي والتنوع الديني، وأكثر احتراماً للتفكير المختلف والرؤى المتباينة بعيداً عن أي رقابة، مما أوجد ترسيخاً لفاعلية الذات ضمن فضاء يسمح لها بتجاوز أيِّ إقصاء أو تهميش قد تتعرض له في الواقع التقليدي الذي تتحكم به سلطات ذات بنية تركيبية معقدة، وقد وجد الفيلسوف الألماني كانط (Immanuel Kant) في كتابه (السلام الدائم) أنَّ هذا الفضاء يمثِّل المجال الذي تتبلور فيه حركة الفكر، ويُشهر سلاح النقد إزاء كلِّ ما يتناقض ويتنافر مع الحرية والعدالة والفضيلة، أي إن هذا الفضاء يفتح الباب لممارسة الذات حضورها المغيّب وإخراجها من حالة اللافاعلية والكمون إلى الفعل المؤثر، وهذا الفعل هو الذي سمح للذات المكبوتة والمقيدة في العالم العربي من الحضور على شكل ذات رافضة للسلطة السياسية واستبدادها عندما انتقلت من الرفض الممارس في العالم الافتراضي إلى سلوك عملي تجلَّى في ثورات الربيع العربي. ولكن لو أمعنا النظر أكثر فهل يمكن أن يتحوَّل هذا الفضاء الحر من حاضنة حضور إلى نمط مؤدلج أو نسق فوضوي يؤسس لحالة من اللاإنتاجية عبر إنتاجه لنماذج مُشوِّهة للحقيقة وبعيدة كل البعد عن الواقعية؟

ثانياً: الهوية الافتراضية بين الفاعلية والوهم:

إنَّ إدراك السلطات التقليدية مكانة الفضاء العمومي وتأثيره في تكوين الرأي وزرع المبادئ والقيم الاجتماعية جعلها تسارع للتدخُّل فيه عبر مجموعة من المؤثرين في هذا الفضاء بهدف الهيمنة الأيديولوجية على الأفراد بدايةً ثم محاولة إفراغ هذا العالم من محتواه الفاعل، وجعله مكاناً خالياً من أدنى خطر فعلي على استمرارية السلطات التقليدية، فكانت المرحلة الأولى (مرحلة الحظر) حيث قيدت عمل العالم الافتراضي وحالت دون وصول أفرادها إلى منصاته، إلا أنَّ هذه السياسة باءت بالإخفاق في ظل الثورة الرقمية وتسارعها الكبير الذي وفر القدرة على تجاوز هذه السياسة بإيجاد تطبيقات برمجية بديلة تستطيع اختراق الحظر، لذلك انتقلت السلطات إلى المرحلة الثانية (مرحلة الهيمنة) على اعتبارها وسيلة إعلامية شبيهة بالإذاعة والتلفزيون، إلا أنَّ اتساع هذا العالم بشكل أكبر من قدرتها على ضبطها دفعها إلى اللجوء إلى المرحلة الثالثة (مرحلة التشويه)، والتي اتبعتها عبر إغراق هذا العالم بشتى أشكال التفاهة وتشجيع كل مُنتجيها، ممَّا قاد إلى الإفراغ من المحتوى المؤثِّر، وإلى حالة من التبعثر الهوياتي للذات التي حضرت عبر هذه الوسيلة لا سيما أن تهافت إنتاج التفاهة (مؤسسات، وأفراد) شكَّل عائقاً أمام الذات الساعية في استمرارية الفعل.

إنَّ عملية تمثُّل الذات في العالم الافتراضي تركز بالأساس على الصورة وجملة من العلامات والرموز المُستخدمة، ممَّا سهل عملية التشويه؛ لأنها طالت الصورة المطروحة وأبعدتها عن الواقع، فحسب تعبير عالم الاجتماع الأميركي جوفمان إرفينج (E.Goffman) في كتابه (إضفاء الطابع الدرامي على الحياة اليومية) إنَّ التفاعلات البشرية تحدث بطريقة تعتمد على التوقعات الشرطية بحسب وضع التفاعل، وهي تؤثر في اتصال الفرد المشارك في التفاعل المتبادل والتي ترتكز على جملة من الطقوس والمعايير يحدها واقع الأفراد والمواقع التي يتخذونها في عملية التفاعل.

ختاماً، صحيح أنَّ العوالم الافتراضية تمارس ديمقراطية غير مشروطة، ولكنَّ ذلك يحمِّلها عبئاً أكبر، نتيجة مسؤولية الذات عن أفعالها أولاً وأخيراً، بمعنى أن اختيار الأفراد لسلوك معين في حياتهم لا ينفي عنهم تحمل مسؤولية خياراتهم، وهنا تكمن خطورة تلك العوالم، إذ أصبح من السهل طرح العديد من الأفكار التي تتبناها المؤسسات أو الحكومات ودعمها بكل الوسائل لتصبح (ترنداً) منتشراً بين أكبر عدد من الأفراد، وبذلك لم يعد حضور الفرد مستقلاً كما قد يتوهم بعضهم بل أصبح مؤدلجاً تتحكَّم به قوى خفية غرضها الأساسي تغييب الفرد عن الواقع.