الفلامنكو.. صرخة العرب الأخيرة على ركام الأندلس

2023.07.20 | 06:58 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

عندما كان الأندلسيون يجوبون طرقات إسبانيا والبحر المتوسط هرباً بعد سقوط غرناطة، وعلى مدة أكثر من قرن من الاضطهاد القائم على التمييز على أساس الدين بداية ثم على أساس الثقافة، كان هناك الكثير من المضطهدين الذين لم يقصدوا تلك الطرقات هرباً للمغرب أو تونس أو الجزائر أو غيرها. لأسباب كثيرة ظل كثير من المسلمين في إسبانيا، ولكن على رأسها السبب المادي. الفقير عادة ما يصبح البطل المقاوم، ومن الفقراء تتكون دائماً جماعة الصامدين الأخيرة، حيث لا حل لديهم سوى الصمود والبطولة.

ستشهد حروب التحرير التي قادها الإسبان ضد الأندلس بعد سقوط غرناطة اضطهاداً دينياً موجهاً ضد المسلمين واليهود، وحتى المسيحيين الذين لا يتبعون الكنيسة الكاثوليكية، وسرعان ما سيتحول هذا الاضطهاد إلى اضطهاد ثقافي، سيصبح الحديث باللغة العربية ممنوعاً على مسلمي إسبانيا "المورسكيين"، ومن ثم سيمتد المنع ليشمل مظاهر اللباس العربي. ستُرعِب محاكم التفتيش والتصفية والسجن والتعذيب والغرامات الكثير من العرب الذين بقوا هناك، ليظهروا شخصيات أخرى تتناسب مع وضعهم الراهن، وتحميهم من الاضطهاد الموجه ضدهم. بات كثير من المورسكيين أشد كاثوليكية من الكاثوليكيين الأصليين. أكلوا لحم الخنزير وشربوا الخمر وتحدثوا الإسبانية. وستنتشر في تلك الفترة رخصة "التقية"، وسيمارس الكثير من المسلمين ديانتهم سراً في بيوتهم، بينما يخرجون للشارع كاثوليكيين مخلصين.

لن يسلم رغم ذلك الكثير من العرب وغيرهم من المسلمين واليهود من حملات الاضطهاد التي ستشنها السلطات الجديدة، راغبة بالدرجة الأولى بالسيطرة على ممتلكات وأراضي المورسكيين أو ما تبقى منها، وسيلجأ الأخيرون للغجر الذين كانوا يعيشون على هامش المدن والحياة في إسبانيا، والذين لم يتعرضوا لنفس الاضطهاد.

في المصادر العربية القديمة والحديثة والمعاصرة ما زال هناك تجاهل كبير لدور الغجر الكبير في تلك المرحلة في حماية المضطهدين من الفقراء الأندلسيين الذين ضاقت بهم الدنيا حينها، واتسعت لهم خيمة الغجر.

سيحافظ الغجر في تلك المرحلة على روح الأندلس، وإن جاز القول سيرثون تلك الروح. التنوع الديني والعرقي الذي عجت به المدن الأندلسية سابقاً بسكانها المسلمين والمسيحيين واليهود، العرب والبربر والإسبان وغيرهم من الأوروبيين والأفارقة. كل ذلك سيختفي من المدينة الإسبانية ليظهر في ضِياعِ الغجر وبين خيامهم. ستجد اليهود والمورسكيين والأفارقة يعيشون بينهم، ويتزوجون من بعضهم، ويتحولون جميعا مع الوقت لغجر، ليس من الناحية العرقية فحسب، بل من الناحية الثقافية أيضا، سيصبح مذهب الغجر في الحياة الحرة مذهبهم، ويعوضهم الرقص عن دينهم الضائع.

في حنايا ذلك التمازج من أكوام المضطهدين سيظهر الفلامنكو، وسيدل بكل ما فيه على جذوره المتأصلة في حناجر وأجسام المضطهدين. ستكون رقصة الفلامنكو وكلمات أغانيها وألحانها خليطاً سحرياً من موسيقى الغجر والعرب والأفارقة، ولكنها ستولد باللغة الإسبانية.

لك أن تتخيل ذلك الأندلسي جالساً على مرتفع صغير قريب من مدينة أندلسية كانت بالأمس القريب مدينته، وهو الآن على هامش الحياة فيها يرتدي لباس الغجري متنكراً بدين وثقافة أخرى، ينظر للمدينة وهي ترتدي حلة جديدة تفرض عليه إنكار هويته ونزع جوهره، وأن يرتدي هوية جديدة، هي هوية من اضطهده بالأصل، وتخيل أيضاً أنه كان يكبر على تحذير أهله من أن يكون على ما هو عليه، وأن ينكر ذاته ويتلبس ذاتاً أخرى، ويترافق ذلك مع حكايات عن مجد ليس ببعيد حيث كانت تلك المدينة له، وتلك الشوارع شوارعه، ولم يكن عليه أن يخشى ما هو عليه، وأنه كان مركز المدينة، وجوهرها يتطابق مع جوهره. في زحمة الفقر والاضطهاد وإخفاء الذات والقهر على المجد القريب، الذي كلما ازداد بعداً ازداد بريقاً وتألقاً، في تلك الزحمة سيصرخ ذلك الفلاح المنكوب ليس مغنياً، وإنما متألماً معبراً عن هويته، وستُسمّى تلك الموسيقا وذلك الرقص وهذا الغناء على اسمه، فالفلامنكو ليست سوى اختصار للكلمتين العربيتين: الفلاح المنكوب.

إحدى أشهر أغنيات الفلامنكو آتية من أصوله الأولى تصف، في بعض أبياتها، حال ذلك الأندلسي في تلك المرحلة ببلاغة وعمق كبيرين: "لم أعد أعرف الشخص الذي أكونه، ولست الشخص الذي يجب أن أكونه، أنا قطعة ثياب مرمية على طرف الجدار". لم يعد يمكن للأندلسي أن يكون مسلماً أو يهودياً، أو يتحدث العربية، ولا يمكن له أن يكون كاثوليكياً، وعلى هامش الحياة تلك سيرى في الغجري موئلاً ليكونه، فلم يعد كما كان سابقاً، لكنه سيرفض هوية مضطهديه.

ورغم أن الفلامنكو نشأ من تفاعل الأندلسيين والغجر والأفارقة، لكن لا يمكن اعتباره وريث الموسيقا الأندلسية، ولم يكن يوما باللغة العربية، فالموسيقا الأندلسية موسيقا نخبوية ولدت وترعرعت وكبرت في بلاطات الخلفاء والأمراء والأثرياء، وقد يشوبها الحزن الناتج عن العشق والصبابة، أما الفلامنكو فهو موسيقا شعبية ولدت وترعرعت وكبرت في خيام الغجر وعلى طبولهم، وليس فيها مسحة حزن، وإنما تضج بالألم الناتج عن الصدمة، صدمة مليئة بالقهر والغضب والشعور بفداحة الخسارة. تتميز الفلامنكو بأنغامها وكلماتها القوية والمؤلمة، وبحركات الجسد القوية حدَّ العنف، المترافقة مع ضرب الإيادي والأقدام بشيء يشبه كثيراً اللطم.

سيجد فلاحنا المنكوب في الفلامنكو طريقه لبناء هوية جديدة له، ملكه هو، وهو الآن ليس ذلك الأندلسي، بل هو الأندلسي الغجري الأفريقي، الإسباني المضطهد في بلاده. سيحاول أن يعيد من هويته القديمة ما يمكن أن يظهره في هويته الجديدة، فمثلا أحد فروع موسيقا الفلامنكو ورقصاتها في جذورها مرتبط بالأذان والصلاة، وكان اسم ذلك الفرع "صوليا"، الاسم المأخوذ من الصلاة مباشرة. هنا من العدم تماماً ولد الفلامنكو، في الوقت الذي سلبت السلطات الجديدة من الأندلسي هويته وجوهره، وأجبرته على إخفائها، وفي قمة شعوره بانعدام جوهره، وفي هذا الخواء صرخ متمرداً بالفلامنكو "أولا" والتي تعني الله، وغنى فرع الصوليا بطريقة أشبه بالترتيل، وكأنه يحاول أن يعيد الأذان والصلاة وتونات العربية جهراً، ولكن بالإسبانية.

ابتعد الفلامنكو عن جذوره، نسي الناس الذي أنشأه وترعرع بينهم، وأسباب الألم التي جعلت منه رقصاً وغناء مليئاً بالضجة والحركة. لم ينطفئ غليان الفلامنكو، بل تمت استعاضة المخزون من القهر والألم بالحماسة والفرح، لكن لم يستطع أحد أن يسرق جوهره الحقيقي، فاسمه وصرخاته وضربات الأقدام والأيادي على أرضه، تذكر دائماً بأنه لحن المضطهدين، ولذلك قد يكون الفن الوحيد الذي غالباً ما يكون راقصوه في الشارع أفضل أداء بكثير من راقصيه على المسرح. الفلامنكو رفض النخبوية، وظل الفن الشعبي، وصرخة العرب الأخيرة على ركام الأندلس.

كلمات مفتاحية