ما هو حافظ الأسد؟ (3)

2022.10.03 | 05:57 دمشق

الأتاسي والأسد وجديد
+A
حجم الخط
-A

ما قبل حرب 1967

تناولت المادة السابقة مسيرة حافظ الأسد بعد انقلاب حزب البعث في بداية الستينات، ومن ثم شق طريقٍ خاص به بعيداً عن عرابه صلاح جديد، ودعمه حركة فتح الفلسطينية في مرحلة من المراحل بغية تشكيل بنية نضالية تنطوي تحت دعمه في مواجهة جديد، ثم تقويض وجودها في الأردن إثر أيلول الأسود من خلال منع دعم القوات البرية السورية التي دخلت لمساندة القوات الفلسطينية في مواجهة القوات الأردنية التي كانت حتى حينذاك تعتبرها دولة البعث قوات تابعة لنظام رجعي.

اقرأ أيضاً.. ما هو حافظ الأسد؟ (2)

كانت فترة حكم البعث في الستينات فترة سلطوية غير ذات معنى، أطبقت قبضتها على الدولة والمجتمع بالحديد والنار، ولكنها أسقطت البعث نفسه عدة مرات. إذ سيتخبط حزب البعث في أزماته إثر التصفيات المستمرة منذ انقلاب آذار، فبعد تصفية الناصريين في الجيش، سيبدأ البعث بأكل نفسه، وتبدأ كتل البعث نفسها بالانهيار، بداية بكتلة أكرم الحوراني، ثم مناصري القيادة المدنية من الملتفين حول عفلق والبيطار، وبعدها كتلة الدروز بعد القضاء على سليم حاطوم، ثم كتلة الحوارنة بعد استبعاد قائد الأركان أحمد سويداني، ثم الصراع الذي بات ظاهراً في عام 1968 بين جديد والأسد.

سيترافق ذلك طبعا في تقلبات بموازين القوى في الجيش، وتمزقه تحت الضربات المتفرقة. شهدت فترة الستينات أيضاً تمايز كتل البعث العسكرية فيما بينها على أساس طائفي أو مناطقي أو عشائري، أو أحياناً حكمت تلك التمايزات التي تتحول بطبيعة الحال إلى شقاقات العشوائية التي لا يمكن فهمها أو ضبطها في سياق.

على المستوى السياسي، سيحكم البعث قبضته على السلطة متسلحاً بقانون الطوارئ وتبنيه فكرة الحزب الطليعي، وسيصادر السلطة التشريعية من خلال القضاء على الحياة الديمقراطية بإلغاء البرلمان وتشكيل ما تم تسميته "المجلس الوطني للثورة"، والذي يتم تعيين أعضائه من قبل قيادة البعث.

سيتقلّب صلاح جديد في توجهاته الإيديولوجية، وعلى الرغم من كونه راديكالياً، إلا أن إيديولوجيته كانت عبارة عن موقف تحكمها راديكالياته في حفاظه على السلطة من خلال التلاعب بتحالفاته التي كان بارعاً فيها.

بداية أفسح صلاح جديد المجال للعمل مع البعثيين الماركسيين بقيادة ياسين الحافظ والبعثيين الاشتراكيين الديمقراطيين بقيادة حمود الشوفي، لينقلب فيما بعد للتوجهات الشيوعية مفسحاً المجال لخالد الجندي بتشكيل الكتائب العمالية المسلحة التي سيستخدمها في ترسيخ قوة النظام ومحاربة خصومه كما سيحصل إثر محاولة انقلاب سليم حاطوم في 1966، أو في مرحلة إضراب تجار دمشق عام 1967. لن يطول الأمر بتلك الكتائب حتى يأمر جديد بحلها وسحب سلاحها بحجة عدم علم الحزب بإنشائها.

على مستوى السياسة الإقليمية، لم يراع جديد ورفاقه أو يعي توزع خريطة القوة في الشرق الأوسط. سيعلن الحزب معاداته "للرجعية العربية" المتمثلة بالملكيات التي تمركزت بشكل أساسي في منطقة الخليج التي كان لها أن تكون مصدراً لتدعيم الحالة الاقتصادية، وسيبتعد عن مصر التي وصل للسلطة عبر انقلاب بحجة إعادة الوحدة معها. سيعلن جديد أيضاً على تبني الخط الفدائي فيما يخص فلسطين ويعلن الحرب الشعبية على إسرائيل بما لا يتوافق مع إمكانيات سوريا الفعلية.

على مستوى المجتمع في الاقتصاد والثقافة، ستتعنون المرحلة بسيولة الوضع الاجتماعي، إذ ستشهد سياسات البعث التي قدمت المصالح الريفية على اعتبار الريف الخزان الرئيسي والأعم للحزب مقاومة عناصر المدينة من تجار وصناعيين من الذين لم يجدوا لهم مصلحة مع النظام الجديد، وستشهد المرحلة أيضاً عدم استقرار اقتصادي نتج عن السياسات الاشتراكية الراديكالية من خلال التسريع في مصادرات وتوزيع الأراضي من خلال عدة مراسيم مثل تكثيف العمل بالمرسوم 161 لعام 1958 (قانون الإصلاح الزراعي)، وتحديد سقف الملكية بالمرسوم 88 لعام 1963، إلا أن التقلبات السياسية في الستينات بما رافقها من تخبط وغموض محيط بالملكية.

يضاف إلى ذلك هروب رأس المال نتيجة تلك التقلبات، والمقاومة الخفية لكبار الملاك، والعوائق البيروقراطية التي بات يضعها الموظفون الحكوميون المدينيون، أدى ذلك كله لفوضى في إعادة توزيع الأراضي واستثمارها، مما خلق زيادة في البطالة الزراعية حتى، مترافقاً مع سوء إدارة الموارد الاقتصادية. الأمر الذي أدى إلى تراجع عام في الأداء الاقتصادي، وسيترافق ذلك مع تراجع الوضع المعاشي بشكل خاص للطبقات المدينية الوسطى وأصحاب المهن الحرفية، وطبقات التجار الذين كانوا منعزلين بشكل مطلق عن الحكم، وستتأثر معهم طبقة العلمائية الدينية التي كانت تعتمد بشكل أساسي في شعبيتها وأسباب استمرارها المادية على العناصر الحضرية، الطبقة الغنية منها أم الوسطى، وستعتبر حزب البعث عدواً لها، في حين لن يرى فيها قادات البعث مجموعة صديقة، وسيصعّد الراديكاليون في قيادة البعث الصراع ضد التوجهات الدينية، في حينه ستراه المجتمعات المدينية باعتباره حرباً على الإسلام بشكل عام، مدعومة بوجهة نظرها تلك بممارسات عُدَّت معادية للدين بجوهره مثل اقتحام المسجد الأموي عام 1965 وإطلاق الرصاص في ساحاته إثر اعتصام مناهض لممارسات النظام البعثي، وانتشرت على إثرها العديد من القصص التي تحدثت عن الاستهزاء بالقرآن وعن العداء الصريح للإسلام.

الابتعاد عن مصر أيضاً سيؤدي لغليان الطبقات المدينية الأكثر فقراً التي باتت تستعيض في جزء منها عن الإيديولوجية الدينية بإيديولوجية قومية ناصرية ترى في عبد الناصر المخلص والزعيم.

ستستمر تلك السياسات حتى هزيمة 1967 التي فضل بها نظام البعث – صلاح جديد حماية السلطة على حماية الأرض لتكون أول الكتائب العسكرية المنسحبة من الجبهة اللواء 70 المدرّع بقيادة العقيد عزت جديد وكتيبة الدبابات بقيادة النقيب رفعت الأسد. سيصدر وزير الدفاع حافظ الأسد البلاغ رقم 66 الذي يعلن سقوط القنيطرة، في الوقت الذي تلقت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي حينذاك أوامراً بعدم احتلال القنيطرة نفسها، وعند سماعها البلاغ لم تصدق، وظنته فخاً من قبل الجيش السوري.

في هذه الأثناء كان حافظ الأسد ما زال جزءاً من فريق صلاح جديد، يرسم خطط استقلاله عنه بهدوء، وسيتمكن من خلال اعتماد جديد عليه في الجيش من وضع قيادات - لا أهمية لها ولا تاريخ عسكري تملكه إلا بقدر ما يعطيها حافظ الأسد من قيمة - في أماكن حساسة وضاربة، من مثل تسمية محمد الخولي قائداً للمخابرات الجوية، ومصطفى طلاس رئيساً للأركان، وهما شخصيتان لا يميزهما في الجيش إلا تبعيتهم للأسد.

سيدافع الأسد بشراسة في المؤتمر القومي الاستثنائي التاسع لحزب البعث عام 1967 عن السياسات الراديكالية اليسارية المتشددة، وعلى مبدأ الحرب الشعبية التي عنونت سياسات صلاح جديد، ولا يمكن الجزم هل ذلك من خلال التزامه حينذاك بقيادة صلاح جديد، أم لزيادة الهوة بينهم وعزله عن حلفائه داخل البعث وخارجه وعلى مستوى الدولة وخارجها.

في الجزء القادم ستتحدث المادة عن مرحلة ازدواجية السلطة، وصراع الأسد وجديد العلني الذي حسمه الأخير لصالحه.