ما هو حافظ الأسد؟ (٢)

2022.09.17 | 07:01 دمشق

ما هو حافظ الأسد؟ (٢)
+A
حجم الخط
-A

في الجزء السابق من هذه المادة تم تناول نشأة حافظ الأسد والظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة به، وأنه نشأ في بيت وحدوي على الأقل في مرحلة نمو حافظ الأسد الأولى، حيث وقّع والده على وثيقة في عام ١٩٣٦ تطالب بوحدة العلويين مع الكيان السوري وتؤكد على عروبة وإسلامية الطائفة العلوية، وفيما بعد انضم إلى الجيش عام ١٩٥٢، وأصبح عضوا في اللجنة العسكرية كترميم للضباط الذين خرجوا منها والذين كانوا من الطائفة السنية، وبعد انقلاب آذار ١٩٦٣ أصبح يترقى في الجيش بشكل سريع بفضل عرابه حينذاك صلاح جديد. أيضاً أشارت المادة في جزئها الأول إلى أن حافظ الأسد فضل الانضمام إلى حزب البعث القومي على حزب نشط حينذاك في الساحل السوري له توجهات فئوية تحت اسم إصلاح الريف العلوي.

من الجدير بالذكر أن الجيش لم يكن خيار الأسد الأول، فقد حاول أن يدرس الطب، ولكن لأسباب مادية تخلى عن هذا الهدف والتحق بالأكاديمية العسكرية في حمص وتخرج برتبة ملازم طيار عام ١٩٥٥.

في الوقت نفسه انضم حافظ للبعث عام ١٩٤٦، وتولى عدة مناصب طلابية منها رئيس اتحاد طلبة فرع اللاذقية ومن ثم رئيس اتحاد طلبة سوريا.

بعد الانفصال وعودته إلى سوريا تم تحويله للخدمة المدنية ليعيده صلاح جديد الذي سيصبح مدير إدارة شؤون الضباط في وزارة الدفاع بعد الانقلاب، الأمر الذي سيساعد على إعادة هندسة أركان الجيش بما يتناسب مع هيمنته على السلطة.

سيبدأ حزب البعث بتشكيل الجيش ليكون للبعثيين اليد العليا في الجيش، وسيوزع الضباط وصف الضباط البعثيين على التنظيمات الضاربة في الجيش السوري وعلى رأسها كتيبة المدرعات، ومن ثم لتنقلب عمليات التصفية وإعادة التركيب إلى صراعات داخلية في البعث نفسه، وسيتم تسريح المئات من ضباط الجيش وتعويضهم بمدنيين بعثيين كانوا في جزء كبير منهم من خارج السلك العسكري.

من المرجح أن الاختيار بداية لم يكن قائما على أساس طائفي بقدر ما هو زراعي عصبوي للبعث، وتمحور بشكل أكبر حول علاقة عدائية قائمة على ازدواجية ريف - مدينة

في هذه المرحلة كان للعلويين حتى قبل هيمنة صلاح جديد على الجيش أكثرية عددية فيه، فمثلاً سيصرح عبد الحميد السراج رئيس الشعبة الثانية، وهي إدارة الاستخبارات العسكرية في أثناء التحقيق حول اغتيال العقيد عدنان المالكي المتهم بها الحزب القومي السوري عام ١٩٥٥ بأن ما يزيد عن ٥٥٪ من صف ضباط الجيش ينتمون إلى الطائفة العلوية، ومن الجدير بالذكر أن المتهم بعملية الاغتيال كان غسان جديد الأخ الأكبر لصلاح جديد.

في مرحلة إعادة تكوين الجيش بعد عام ١٩٦٣ وتصفية التيار الناصري فيها ستزيد نسبة الارتكاز على هيمنة ضباط علويين على مراكز القوة داخل الجيش، ومن المرجح أن الاختيار بداية لم يكن قائما على أساس طائفي بقدر ما هو زراعي عصبوي للبعث، وتمحور بشكل أكبر حول علاقة عدائية قائمة على ازدواجية ريف - مدينة، فعلى سبيل المثال في مراحل لاحقة بعد انقلاب آذار تم طرد قيادة علوية وازنة من اللجنة العسكرية وهي محمد عمران، وتعويض اللجنة بأعضاء من طوائف أخرى أمثال عبد الكريم الجندي الإسماعيلي وسليم حاطوم الدرزي.

يبدو أن تطور التوجه الطائفي لدى الأسد بدأ من تزايد طموحاته في خلق خط مستقل له عن صلاح جديد، ولا يمكن بالضبط رصد بداية تشكل هذا الخط، إلا أن بعض السلوكيات للأسد تدل على أن بداية الرغبة في تشكيل هذا الخط بدأت عام ١٩٦٥، حيث توجه حافظ أسد لدعم حركة فتح الفلسطينية حينذاك والتي رفضها صلاح جديد بحجة تشتيت المقاومة، على اعتبار أن البعث كان قد شكل حينذاك قوات الصاعقة التي من مهامها القيام بعمليات فدائية داخل الأرض المحتلة من قبل إسرائيل.

على الغالب بدأ حافظ أسد ببناء خط طائفي صافٍ في الجيش في هذه المرحلة في مواجهة الخط ”الريفي“ الاشتراكي الراديكالي الذي تبناه صلاح جديد ومجموعته، ومن الممكن أن يكون هذا الخط هي الذريعة الوحيدة التي سيتمكن حافظ الأسد من خلالها مع عزل كثير من الضباط العلويين عن صلاح جديد مفرغاً الاتجاه الاشتراكي من قيمته من خلال تصعيد القيمة الطائفية لدى أتباعه، وعليه يكون الأسد قد تمكن من بناء قواه المستقلة والتابعة له في الجيش بمعزل عن صلاح جديد.

ستزيد الأمور وضوحاً بعد تشكيل مكتب الأمن القومي عام ١٩٦٦ بناء على نصيحة من الألمان الشرقيين لضمان هيمنة البعث على الدولة والمجتمع، والذي نتج عنه فيما بعد إحداث إدارة أمن الدولة التي من خلالها رغب مكتب الأمن القومي بالسيطرة على كل أجهزة المخابرات والاستعلامات. رفض حافظ الأسد وزير الدفاع حينذاك ضم المخابرات العسكرية لأمن الدولة، وأحدث أيضا جهاز المخابرات الجوية.

قبل ذلك بعام سيتعرض البعث لهزة كبرى إثر حرب حزيران ١٩٦٧، والتي أدت لخسارة سوريا للجولان بعد أمر انسحاب عشوائي أصدره وزير الدفاع حافظ الأسد قبل حتى الاجتياح الإسرائيلي للجولان. ستتحدث كثير من المصادر منذ حينها عن بيع حافظ الأسد للجولان.

يمكن بناء التحليل في الحالتين السابقتين حول الطائفية والخيانة عبر مصادر واضحة على أساس دوافع سلطوية، ففي الأولى غذى حافظ الأسد الطائفية ليس لكونه يعتقد أو يرغب بهيمنة الطائفة أو تحسين أوضاعها، وإنما لتشكيل بنية التزام طائفية تدعمه في المواجهة مع صلاح جديد في صراعهما على السلطة، فعلى الرغم من أن الأسد سلم المخابرات العسكرية عام ١٩٦٨ لضابط علوي وهو محمد الخولي، إلا أنه سيستغل خلافاً بين أحمد سويداني الحوراني السني وصلاح جديد، ويعين في العام نفسه ضابطا سنياً آخر في رئاسة الأركان بعد تسريح الأول، حيث جاء مصطفى طلاس السني من ريف حمص على رأس قيادة الأركان، ذلك المنصب الحساس في الجيش، والذي لا يختلف عن مركز صلاح جديد في بدايات انقلاب آذار أثناء هندسته الجيش.

في الحالة الثانية وبعيداً عن التحليلات ضعيفة المعلومات، إلا أنه من الواضح أن حافظ الأسد أمر بانسحاب سريع من الجولان لتفضيله الحفاظ على السلطة على الاحتفاظ بالأرض والسيادة السوريتين، إذ كان الهدف الرئيسي يتمحور بإعادة القوات وعلى رأسها كتيبة المدرعات إلى تمركزها حول دمشق لحماية السلطة من أي احتمال لانقلاب قد يحصل ضد السلطة البعثية.

أول إشارة واضحة لهذا الخلاف بين الطرفين وبشكل غير مباشر بناء حافظ الأسد قوته الطائفية داخل الجيش جاءت في وصية عبد الكريم الجندي القيادي البعثي وأول رئيس لمكتب الأمن القومي قبل انتحاره عام ١٩٦٩، والذي اتهم فيها الأسد بالعمالة وباستغلاله ”العلاقات الاجتماعية البالية“ وتوجيه الثورة والمنصب لمصلحته الشخصية.

حافظ الأسد حتى حينها لم يكن طائفيا من ناحية أنه يلتزم بإيديولوجيا طائفية ترغب في هيمنة علوية على الدولة السورية، بقدر ما كان شخصية استبدادية

سيتصاعد الخلاف عام ١٩٧٠ إثر أيلول الأسود، والذي يشير إلى الحرب التي نشبت بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوات المسلحة الأردنية. سيتدخل الجيش السوري حينذاك بأوامر من صلاح جديد لمساندة القوى الفلسطينية المحاصرة في المخيمات الفلسطينية في الأردن ضد القوات المسلحة الأردنية، وبعد دخول القوى البرية السورية تعرضت لمقاومة عنيفة وخسائر فادحة إثر تدخل سلاح الجو الأردني ومنع حافظ الأسد سلاح الجو السوري من تغطية القوات البرية، وبذلك يكون حافظ الأسد قد انحاز للقوات الملكية الأردنية التي كان حزب البعث حتى حينها ينعتها بالقوى الرجعية العربية.

سيكون هذا التدخل هو الإعلان الصريح لبدء حافظ الأسد انقلابه على عرابه صلاح جديد وبداية تشكيل حكمه الاستبدادي.

من خلال ما سبق يبدو أن حافظ الأسد حتى حينها لم يكن طائفيا من ناحية أنه يلتزم بإيديولوجيا طائفية ترغب في هيمنة علوية على الدولة السورية، بقدر ما كان شخصية استبدادية جعل من الطائفية إحدى أقوى أسلحته في حربه من أجل الهيمنة على السلطة، وسينطلق بعدها في ترسيخ بنية التزام طائفية تجعل من مصطلح ”العلوية السياسية“ الذي أطلقه المفكر السوري جلال العظم إبان الثورة السورية عام ٢٠١١ مصطلحاً قابلا للدراسة والتحليل.

سيتعرض الجزء التالي من هذه المادة إلى أسس الهيكل الاستبدادي الحديدي الذي أنشأه حافظ الأسد منذ توليه السلطة وحتى موته عام ٢٠٠٠.