"ابتسم أيها الجنرال" في مواجهة دراما المنطق الفني

2023.05.01 | 06:59 دمشق

"ابتسم أيها الجنرال" في مواجهة دراما المنطق الفني
+A
حجم الخط
-A

شهد رمضان الفائت تعافياً ملحوظاً في الدراما السورية، كما أنه سجل نقلات نوعية جديدة لها على مستوى الطرح أو على مستوى الإبداع الفني.

تلعب الدراما دوراً مهماً لدى السوريين لعدة عوامل لعلّ أهمها حالة التشرذم التي يعيشها السوريون اليوم. فبالإضافة إلى الاستقطابات الاجتماعية الناتجة عن الأحداث السياسية التي أفرزتها الثورة السورية، هناك عملية التهجير القسرية التي قام بها النظام السوري وأدت بدورها إلى تفرق السوريين في مختلف أرجاء العالم. إذ باتت الدراما النافذة التي تجمعهم جميعهم على مشترك واحد، وتعيد لهم جزءاً من هويتهم المتفتتة أصلاً. عامل آخر مرتبط بكون الدراما السورية جاءت في الفترة السابقة للثورة كصناعة وطنية ناجحة تبعث على الفخر وتشكل الجسر الذي دخل منه السوريون بقوة لكل منزل في المنطقة العربية. أقبل الموسم الدرامي العربي الجديد ليمنح دفعاً جديداً لهوية السوريين من ناحية قدرتها على العمل الجمعي الناجح، وأيقظ جدلاً واسعاً مرة أخرى في الاتجاهات التي على الدراما أن تنحوها.

تتميز الدراما السورية بنوعين من الأعمال، الواقعية الاجتماعية التي تربى عليها كثيرون من صناع الدراما السوريين، والعمل التاريخي الذي انتقل به السوريون إلى مستوى آخر في المنطقة العربية عموماً. وحتى تلك الأعمال التاريخية لم تخلُ من رغبة الدرامي السوري في ربطها مع المفرزات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، من مثل تسفيه فكرة الثأر في مسلسل الزير سالم أو التركيز على العمل "العربي المشترك" في مسلسل صلاح الدين وغيره.

لم يتغير شيء في التوجه الاجتماعي للدراما السورية هذا العام، ولكن ما تغير كان الجمهور، الجمهور الذي أصبح أكثر اطلاعاً والمطالب بإنتاجاتٍ أعلى سقفاً لتلك الواقعية الاجتماعية.

أكثر المسلسلات التي أحدثت جدلاً ونجاحاً من إنتاج هذا العام كان مسلسلات "ابتسم أيها الجنرال" و"النار بالنار" و"عاصي الزند".

مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" جاء مثل القنبلة التي وضعت نفسها في وسط سوق الدراما، عبر فتحه المجال بتناول القضية الكبرى المسكوت عنها

تميز "عاصي الزند" بتكامل أسبابه الفنية والإنتاجية التي كما يقول نقاد كثر ستنتقل بالمسلسل السوري لمستوى أعلى في الصناعة الدرامية. كما تميز مسلسل "النار بالنار" بعودة تلك الدراما، بل وجرها معها الدراما اللبنانية للحديث عن قضايا أكثر ارتباطاً بالواقع المعاش وبقدرته على توليد شحنة كبيرة من التعاطف مع شخصياته، وفتح نافذة جديدة للتفكير في علاقة السوريين واللبنانيين الذين يتعرضون لنفس عملية الانتهاك المستمرة من قبل نفس الطبقات التي تقوم بذلك.

مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" جاء مثل القنبلة التي وضعت نفسها في وسط سوق الدراما، عبر فتحه المجال بتناول القضية الكبرى المسكوت عنها، تلك القضية التي تعيش فوق "سقف الوطن"، ويصح ذلك ليس على سوريا أو الدراما السورية فحسب، وإنما على كل المنطقة العربية ودراماها. يتناول المسلسل قصة ديكتاتور سليل ديكتاتور يتحكم مع عائلته في مقدرات بلد بكامله، ورغم أن القصة تصلح مثالاً لكل ديكتاتور، وهذا ما يشير له الكاتب عبر العبارات المأخوذة من كتاب ميكافيللي "الأمير" والتي يتم افتتاح كل حلقة من حلقات المسلسل بها، فإنه اعتمد على السياق السوري في ترميز تلك الديكتاتورية. فلا تكاد تكون هناك عقدة من عقد النص إلا ومستمدة من الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد في سوريا، انطلاقاً من عملية توريث الحكم، ثم استباحة سيادة بلد جار ومحاولته قمع الحريات فيها، مروراً باغتيال شخصيات مهمة منه، وباستخدام المواد الكيميائية على المعتقلين، والخلاف "العائلي" على الحكم، وسلب أموال الدولة في وضح النهار، واستخدام السلطة في حل المشكلات العائلية، وقتل المشكوك بولائهم عبر إحداث تفجيرات، ورعاية المتطرفين والتعامل مع العدو لتثبيت الحكم، وانتهاء بتصفية رفاق الدرب.

سيشكل مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" في الفترة المقبلة كابوساً ثقيلاً لكثير من العاملين في الدراما السورية الملتزمين بالركون لسلطة النظام السوري، حيث سَيُسأَلون عن رأيهم في أثناء ظهورهم الإعلامي.

في جواب للممثل باسم ياخور عن رأيه في المسلسل سيخرجه مما سمّاه حالة "المنطق الفني". كان من الممكن له أن يجعل من رأيه وجاهة لو أنه عبّر عن رأيه من خلال تناوله الجوانب الفنية في العمل من الإخراج أو النص أو الإنتاج، أو لو أكمل عبارته بأنه خارج حالة المنطق الفني في سوريا، حيث لا منطق يحكم أتباع النظام برأسه. باسم ياخور الذي رأى في المسلسل غير مناسب في جو الاستقطاب الذي يعيشه المجتمع السوري هو نفسه الذي شارك في مسلسل "الولادة من الخاصرة" لنفس الكاتب سامر رضوان وفي فترة كان الاستقطاب فيها أشد منه اليوم. لكنه يبرر رأيه بأن المسلسل تناول حياة شخصية، ناسياً أن الدراما السياسية والاجتماعية جزء أساسي من منطق فني لا يفهمه هو. ياخور يمكنه أن يرى في مسلسل العربجي قيمة فنية، ويتباهى بدوره الذي يواجه فيه الظلم، يبحث عن منطق فني يسمح له بمواجهة قيمة الظلم ولكن لا يتعداها لمواجهة الظالم نفسه. ما دام الظالم سيده فإن من "اللامنطقي فنياً" مواجهته. يضاف إلى ذلك بأن السلطة شأن عام، وليست شأناً خاصاً كما يراها الفنان باسم ياخور.

نرى في المسلسل شخصيات تمثل تيارات يسارية وأخرى إسلامية متطرفة، وحضور للعصابات وللفصائل، ولكن حزب الله لا ذكر له في هذا المسلسل، ولا دخل له بتلك المعاناة

المخرج محمد عبد العزيز الذي أبدع في مسلسل "النار بالنار" يرى في "هداك المسلسل" كما يسميه السوريون المعتقلون في سجن الأسد الكبير مسلسلاً ضعيفاً هزيلاً وإيديولوجياً. أيضاً مرة أخرى لو أنه تناول الجوانب الفنية لكان قوله يستحق النقاش، ولكن يراه إيديولوجياً لأنه "ضدهم" على اعتبار أنهم في جانب "الدولة السورية"، والدولة بالنسبة له هي النظام، أو هي بشار الأسد، دولته تلك المتجانسة. جواب عبد العزيز "الهزيل" في توصيف المسلسل بالإيديولوجي يظهر مدى خوف هؤلاء حتى من ذكر اسم المسلسل. مسلسل مثل "حمام القيشاني" يمكن توصيفه بالإيديولوجي، أما "ابتسم أيها الجنرال"، فلا يرتكز على أيدولوجيا معينة، وإنما على دراما سياسية تتناول طريقة حكم استبدادي لصوصي عائلي، تجنب الكاتب في الذهاب بالأحداث فيه إلى الترميز مطباتِ التوثيق. المخرج عبد العزيز لا يرى في التزامه في مسلسله النار بالنار بسقف الوطن التزاماً إيديولوجياً، فرغم أن المسلسل يعرض حالة البؤس التي تتعرض لها شخصيات المسلسل من سوريين ولبنانيين، فإنه يخرس تماماً عن الفيل الأبيض في وسط الغرفة. نرى في المسلسل شخصيات تمثل تيارات يسارية وأخرى إسلامية متطرفة، وحضور للعصابات وللفصائل، ولكن حزب الله لا ذكر له في هذا المسلسل، ولا دخل له بتلك المعاناة، وكأن النقاش بين السوريين واللبنانيين لا يتطرق لوجود حزب الله في سوريا، ولا يتطرق للحضور الثقيل للحزب في الحياة اللبنانية السياسية والاجتماعية والثقافية، ذلك الوجود الذي بدا أن له دلالاته الظاهرية على قيادة حزب لله للدولة والمجتمع، فعندما نقول في لبنان اليوم "الحزب" فأنت تقصد حزب الله، وليس أي حزب آخر على كثرتها في لبنان، كما هو الحال بالنسبة لحزب البعث في سوريا. يظهر المسلسل أن مشكلة السوريين ليست سياسية، فالكل يستطيع الدخول والخروج إلى سوريا، ولا أحد من تلك الشخصيات لديه مشكلات أمنية تمنعه، ويدعو المسلسل أيضاً للسماح للمجرمين بالإفلات من العقاب، فذلك الشخص الذي يبحث عن أبيه لأكثر من أربعين عاماً بعد أن اختطفته المخابرات السورية سينسى أباه من أجل الجرح الجديد الذي بدأ يعاني منه. بحسب المسلسل الذي زاد في ضياع حق الأشخاص في معرفة مصير أقاربهم المعتقلين عبر تمييع الحقيقة، وزيادة الضبابية حول المجرم باعتبار أن الجميع مجرمون يرى أن إغلاق الجرح ليس بمعرفة مصير هؤلاء ومحاسبة المجرم، وإنما بالتسامح والنسيان.

مسلسل "الزند" كان محكوماً بالحاضر، لأنه لم يتناول حقبة تاريخية، بل حقبة ذات حضور ثقيل في حياة الناس ممتدة لليوم، فالفترة التاريخية لم تكن تتحدث عن صراعات طبقية فحسب، بل كان لتلك الصراعات الطبقية أدواتها الطائفية والعرقية، الأمر الذي أغفله الكاتب، وذلك لحساسية الأمر. نعم لحساسيته دليلاً على أن الدولة الوطنية في سوريا قد فشلت، ولم تستطع بعد أكثر من مئتي عام أن تمنح فرصة مواطنيها تناول تاريخهم بشكل حيادي وموضوعي، لأنه فعلياً لا يوجد تاريخ لتلك الحقبة بعد، بل هو حاضر بخطابه وسلوكياته الطائفية حتى اليوم، رسخها بل وضاعفها أسلوب سرقة عائلة الأسد للسلطة واستخدامها.

مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" نجح في كسر سقف الوطن للمرة الأولى في الدراما، وأعلن أن المواطن يحتاج حتى يستطيع العيش إلى وطن بلا سقف يستطيع أن يطرح فيه كل هواجسه، فكان مسلسلاً خارج "المنطق الفني" لكثير من العقول التي يحكم منطق تعاملها لليوم البوط العسكري.