الزمن العربي المسخ

2024.01.21 | 05:06 دمشق

آخر تحديث: 21.01.2024 | 05:06 دمشق

الزمن العربي المسخ
+A
حجم الخط
-A

من المستغرب صمت عدد من كبار المثقفين والفنانين العرب عما يجري في فلسطين مع حرب الإبادة الحاصلة ضد الفلسطينيين، ومع الموقف الدولي المنحاز بوقاحة منقطعة النظير لإسرائيل، والحديث هنا عن الراهن فقط مع أن القضية الفلسطينية هي القضية السياسية الأكثر تجذرا وحضورا في الوجدان الجمعي العربي؛ وهي القضية التي قسمت شعوب المنطقة بعد 2011، وقسمت المواقف حول الربيع العربي، ذلك أن نظاما مثل نظام الأسد، لطالما استغل القضية الفلسطينية وتاجر بها وصدر نفسه الداعم الأول للمقاومة والمتصدي للعدوان الإسرائيلي، استطاع أن يقنع كثيرا من الدول المعادية لإسرائيل بأن ما حدث في سوريا هو مؤامرة صهيونية تستهدف الصمود والمقاومة ضد النظامين الصهيوني والإمبريالي. وهذا ما جعل عددا لا يستهان به من المثقفين العرب يدعمون النظام السوري ضد الشعب ويتجاهلون التدمير والمجازر التي ارتكبها في سوريا، ويصمتون عن كل ما حدث للسوريين؛ بل إن بعضهم كان مؤيدا لتلك الجرائم ووضع يده مصافحا يد بشار الأسد وداعما له في أكبر فضيحة لحقيقة الفصام الذي يميز كثيرا من الإيديولوجيين في السياسة وفي الثقافة والفكر في عالمنا العربي.

يصمت كثير من هؤلاء اليوم عما يحدث في فلسطين، ونكاد بالنادر أن نقرأ لأحدهم موقفا واضحا من الحدث الفلسطيني الذي يشغل العالم؛ مع أنه لا يوجد أي التباس بما يحدث، بالنسبة لنا نحن العرب على الأقل؛ فالعدو الصهيوني هو عدو تاريخي واضح، محتل وعنصري ومجرم، ولا توجد صوابية سياسية في العالم تعادل صوابية مقاومة المحتل؛ بمعنى آخر، يمكن تفهم الصمت عن جرائم الأنظمة ضد شعوبها، خصوصا مع انقسام هذه الشعوب في الموقف من الأنظمة والثورات عليها (مع أن شرط الثقافة الأول هو الوقوف في وجه الاستبداد مهما كان نوعه)؛ لكن ماذا بخصوص إسرائيل والفلسطينيين؟ ما من انقسام فلسطيني حول العداء للمحتل، وما من انقسام حول حق الشعوب المحتلة بالتحرر بكل الوسائل، وما من انقسام حول طرق المقاومة أيا كانت؛ ليس هذا فحسب، بل إن كل شخص يعترض على مقاومة محتليه أو يتعاون معهم هو بالعرف الأخلاقي خائن، ما يعني أن كل فعل يقوم به الفلسطينيون في وجه الاحتلال وفي طريق التحرر هو فعل إيجابي وأخلاقي ومشروع في كل الأعراف الإنسانية والقانونية. ما الذي يجعل هؤلاء صامتين أمام هول ما يحدث وكأنه يحدث في كوكب آخر لا يمت لهم بصلة؟!

هناك مصلحة مباشرة للجميع بخلخلة وجود هذا الكيان ومقاومته وزعزعة نفوذه وامتداداته وتحالفاته، وكشفه وفضحه أمام الرأي العام العالمي ما يقلل من سيطرته على القرارات الدولية المتعلقة بمنطقتنا العربية

لا تغيب الإيديولوجيا عن صمت بعض هؤلاء، خصوصا المثقفين، فغزة تحت سيطرة حماس، وحماس هي الحركة الإسلامية التي استبدلت بها حركة المقاومة الوطنية اليسارية (فتح) بكل فصائلها، وحماس تسيطر فعلا على غزة وتفرض قواعدها على الحياة اليومية لأهل غزة؛ حماس أيضا حليفة لإيران التي لا يغيب عن بال أحد ما فعلته وتفعله في بلادنا، ولا يغيب دورها في القضاء على الربيع العربي ولا دعمها غير المشروط لنظام الأسد تحديدا، وتحالفها مع كل أنظمة الاستبداد في العالم العربي، كما أن طموحها في استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة يبدو أنه لا يزال واحدا من أسس السياسة الإيرانية مضافا طبعا لمصالحها الاقتصادية والعسكرية؛ سوف يجد كثر أنفسهم أمام معضلة سياسية كبيرة في فهم ما يحصل أو في طريقة ارتكاستهم تجاه ما يحصل في غزة. لكن مع قليل من التخلي عن الإيديولوجيا، ومع بعض الفهم لتاريخ هذا الصراع وتاريخ الكيان الصهيوني ونتائجه المباشرة وغير المباشرة على خريطة العالم العربي السياسية والاقتصادية والديموغرافية، سوف يدركون أن هناك مصلحة مباشرة للجميع بخلخلة وجود هذا الكيان ومقاومته وزعزعة نفوذه وامتداداته وتحالفاته، وكشفه وفضحه أمام الرأي العام العالمي ما يقلل من سيطرته على القرارات الدولية المتعلقة بمنطقتنا العربية.

ثمة سبب آخر لصمت بعض المثقفين العرب عما يحدث في فلسطين يتعلق بخشيتهم على بعض مصالحهم الشخصية وامتيازاتهم في هذه الدولة أو تلك، خصوصا في الدول العربية التي تهافتت للتطبيع مع إسرائيل قبل العدوان الأخير، والتي تمنع مواطنيها وقاطنيها من مساندة الفلسطينيين، بل هي تدعم إسرائيل سياسيا ولوجستيا، وتلقي بالمسؤولية على حركة حماس بما حدث إثر عملية طوفان الأقصى. هذه الدول تملك حاليا مفاتيح الشهرة والثروة عبر سيطرتها على مهرجانات ووسائط الترفيه المختلفة، وتنظيمها ودعمها المادي لمعظم المسابقات الجوائز الأدبية. وهو ما يجعل المستفيدين منها يتجاهلون كل ما لا تدعمه أنظمة هذه الدول، ويغضون النظر عنه كأنه لا يحدث. ولا نتكلم هنا عن الفنانين والمثقفين من مواطني هذه الدول فقط، بل عن زملاء لهم من مختلف الجنسيات العربية اعتادوا الخضوع للممولين إلى درجة تكاد تقترب من العار والذل. (إصرار بعض الفنانين العرب على الغناء والتهريج في مواسم الترفيه هذه دون التفوه بكلمة واحدة داعمة أو مساندة للشعب الفلسطيني هو أمر يقارب العار).

ليس هنالك أسوأ من اللا موقف في زمن مصيري كزمننا الحالي، خصوصا حين تتماهى معه نخب يفترض أنها ضمير شعوبها وأصواتهم المقموعة وحناجرهم التي يصمتها القهر والخوف والخذلان

ليس هنالك أسوأ من الصمت في زمن القتل والإبادة، ليس هناك أسود من التجاهل الذي نراه من قبل مثقفين وفنانين عرب للدم الفلسطيني حاليا، في الوقت الذي يرفع مثقفون وفنانون يهود حول العالم أصواتهم ضد حكومة الكيان الإسرائيلي ويعلنون تبرؤهم من أفعالها ويطالبون بوقف مباشر للعدوان وللحرب وللإبادة. ليس هنالك أسوأ من اللا موقف في زمن مصيري كزمننا الحالي، خصوصا حين تتماهى معه نخب يفترض أنها ضمير شعوبها وأصواتهم المقموعة وحناجرهم التي يصمتها القهر والخوف والخذلان.

لم يمر على عالمنا العربي زمن بمثل خسة وسفالة الزمن الحالي الذي نعيش فيه حيث يسود الانحدار كل شيء؛ حيث تغيب كل القيم التي كنا نتباهى بها في زمن مضى؛ حيث نفتش عن مواقف أخلاقية جامعة لدول ومجتمعات فلا نجد؛ حيث أنظمة عميلة ودول فاشلة لا قرار لها ولا سيادة تتبعها نخب متهافتة وعميلة لها وفاشلة مثلها. إنه زمن الترفيه السمج والتهريج المذل، زمن العمالة السياسية والرطانة الثقافية والتفاهة الفنية؛ زمن اليأس والخوف والفقر والبؤس والعار العربي؛ زمن الانحطاط بحق، وحده دم الأبرياء من يضفي بعض الحياء عليه ويمنحه بعض القيمة، وحدها مقاومة المحتل ومقاومة المستبد ومقاومة الطغيان من يفتح نافذة صغيرة للأمل في هذا الزمن العربي المسخ.