الثلج السوري يذوب على مرج أوكرانيا

2022.02.03 | 05:00 دمشق

alkarykatyr_althamn_lshhr_kanwn_althany2022.jpg
+A
حجم الخط
-A

"ما الذي تريده روسيا من سوريا؟" سؤال طالما رافق الثورة السورية منذ الفيتو الأول لروسيا ولا سيما أن حسابات الجميع كانت متجهة للعوامل التي ستدفع الولايات المتحدة الأميركية للدفع باتجاه التغيير في سوريا، وقد كانت التجارب السابقة مع روسيا تفيد بأنها ستخضع في نهاية المطاف للإرادة الأميركية خاصة بعد تجربة مرور قرار مجلس الأمن الخاص بليبيا تحت الفصل السابع في آذار عام 2011، والذي فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، وكان القرار عاملا محفزاً على خلق شعور بضآلة الدور الروسي في مواجهة الحلف الغربي، أو على الأقل عدم قدرة روسيا على مواجهة الدول الغربية ولا سيما أن وعوداً أطلقت لروسيا مقابل تمرير قرار التدخل في ليبيا ولكن كانت حالة الخذلان الذي تجرعته روسيا من هذا الأمر الذي سنراه لاحقا في تطور موقفها من القضية السورية التي اتسمت بالتراكم الاستراتيجي وصولا إلى الغايات التي ستتضح في سياق استراتيجية بوتين القائمة على استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي.

انطلاقا من سوريا.. روسيا القيصرية بدأت بالتحرك

روسيا التي تعرضت "لخديعة غربية" على حد تعبيرهم في ليبيا، حيث كانت الوعود الغربية للروس بأن تبقى الشركات النفطية الروسية في ليبيا وتستحوذ على استثمارات أكبر مما دفع بها ـ وكإجراء عقابي للغرب ـ إلى استخدام أول فيتو في تشرين الأول عام 2011، أي بعد نحو ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية، ثم توالى الفيتو الروسي مرتين في 2012 وفي 2014، روسيا فيما يبدو غاضبة لتجاهل الغرب لمصالحها الحيوية ـ وزاد في العربدة الروسية في مجلس الأمن التراخي الأميركي مع موقف روسيا قياسا مع مرور قرار ليبيا تحت الفصل السابع، و ظهرت تفسيرات عدة لفهم توجهات موسكو، إزاء القضية السورية تراوحت بين احتمالية التواطؤ الأميركي ـ الروسي وبين الرغبة الإسرائيلية في الحفاظ على الأسد، وبين تحدي روسي للغرب وصولاً إلى استغلال روسيا الفراغ الذي خلفه تردد الإدارة الأميركية في عهد "الرئيس باراك أوباما" بعد صفقة الكيماوي 2013 والتي -نجحت فيها موسكو في قنص الفرصة وتعطيل الضربات الجوية الناتجة عن تجاوز الخط الأحمر "الخاص بأوباما" – ونجحت أيضا موسكو في سبر أفق التدخل الأميركي في سوريا ورأت ألّا شهية أميركية للدخول في حرب جديدة بعد ليبيا ـ ولكن ظل المحرك الأساسي للتعاطي الروسي مع الملف السوري مختبئاً في ظلال استراتيجية بوتين الذي يسعى منذ تسلمه للسلطة لاستعادة الاتحاد السوفييتي الذي وصف انهياره ذات مرة (بالكارثة العالمية).

خط القرم/ دمشق عندما يكشف القيصر عن أنيابه 2014

انطلقت في آذار 2014 عمليات عسكرية روسية للسيطرة على شبه جزيرة القرم ودونباس، وقد أثار التدخل الروسي في أوكرانيا غضباً غربياً عارماً. لكن لابد أن نعترف بحرفية بوتين في اختيار التوقيت المناسب حيث إن الولايات المتحدة حينها منشغلة في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني وأوروبا لا تريد أن تعود لأجواء الحرب العالمية بأي ثمن، مع أن التهديد الروسي لأوروبا أصبح هاجساً سيؤرق القارة العجوز كثيراً، لذلك اختار الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي طريق العقوبات المشددة على الروس، من دون أي رد عسكري ولا حتى التلويح به وكانت النتيجة مؤلمة فقد أمسكت روسيا بتلابيب القارة العجوز من جهة الشرق في أوكرانيا فيما تتجهز لكي تمسك في الجنوب الشرقي في سوريا، والتي ستشهد تدخلا عسكريا صريحا من قبل الروس عام 2015 لتصبح الورقة السورية هي الأغلى في بازار بوتين.

سوريا الورقة التي لم تبَع في سوق الولايات المتحدة

في خريف عام 2015 كان النظام السوري يتهاوى تحت ضربات الجيش الحر والفصائل ذات التوجه الإسلامي، فقد ظهر بشار الأسد معلنا في خطاب أقرب لخطاب الهزيمة أنه يتراجع من مناطق ليحمي مناطق أخرى، بعد هذا الخطاب المهين لرأس النظام تحركت العجلة الروسية تجاه أخذ القرار الأخطر، ولا يهم كثيراً هنا تشجيع أو طلب إيران عبر قاسم سليماني من عدمه لأن الخطوة تعتبر أكبر من أن تكون تلبية لطلب إيراني أو استجابة لإغراء اقتصادي، ظهر بوتين بعنجهية روسية ذات نكهة سوفييتية قائلا (أعتقد أننا في مهمة ستنتهي بعد ثلاثة أو ستة أشهر على أبعد تقدير ) أعتقد أن أحد أهداف العمليات العسكرية الروسية بشكلها الذي ظهرت به كحرب إبادة حقيقية كان ظهورها كبروفا واستعراض عضلات لترك نماذج سيئة في ذهنية أوروبا عن مدى الوحشية التي سترد بها موسكو على أي تحرك عسكري من أجل أوكرانيا، مع توالي الفيتو الروسي في مجلس الأمن لإسقاط أي قرار يدين النظام السوري، يعود السؤال الذي طرحناه في المقدمة (ما الذي تريده روسيا من سوريا؟) مع ذلك استمرت المفاوضات الروسية الأميركية والتي فيما يبدو كانت تصطدم بعدم رغبة أميركية بدفع الثمن لروسيا، ولا سيما أن اتفاقاً نووياً مع إيران قد أصبح أمراً واقعاً، حينها قبلت موسكو بجائزة الترضية باتفاق كيري ـ لافروف الذي قسم النفوذ بين الدولتين بين شرق الفرات وغربه، هذا الاتفاق الذي أطلق يد بوتين في غرب الفرات من ناحية ولكنه قيدها بشكل مؤلم من ناحية أخرى، حيث بقيت مناطق الثروات الطبيعية والزراعية بيد الولايات المتحدة، واضح أن الثمن الذي طلبته موسكو كان:

  1. ضمان النفوذ الروسي في سوريا
  2. وإطلاق يد بوتين في الملف الأوكراني

ولكن الكرملين لم يستطع بيع الورقة السورية رغم عرض بشار للبيع أكثر من مرة، ولكن بثمن لم ترَ واشنطن أن بشار يستحقه، ولا سيما ونحن نرى ورطة الروس في سوريا بعد نجاح الحملات الجوية الروسية في تدمير سوريا وأصبحت بحاجة لأموال طائلة لإعادة الاعمار، ومع انتهاء ولاية أوباما وبدء ولاية ترامب الذي كان شعوبيا لدرجة غير معقولة بالتعاطي مع كل الملفات وعلى رأسها روسيا ونفوذها وسوريا، ولكنه وضع استراتيجية واضحة للولايات المتحدة مبنية على نقاط أبرزها إغراق روسيا في المستنقع السوري وخنق النظام السوري.

ذاب الثلج الروسي أخيرا وبان المرج

أوكرانيا كانت مادة التداول التي شغلت ساكن البيت الأبيض الجديد "جو بايدن" وترافقت مع حملات تصعيد كلامية بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وصلت إلى حد الاستعراض العسكري بطلب المرور للسفن الحربية الأميركية من مضيق البوسفور والمطالبة بتطبيق اتفاقية (مونترو)، وصولاً إلى لقاء القمة الأميركي الروسي والذي نتج عنه تشكيل مجموعة عمل لنقاش القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة وروسيا، الملفت بالأمر أن العروض الروسية كانت تتمحور بشكل أساسي على المقايضات بين الملفات، وكان طبعاً الملفين الأساسيين لدى الروس هما الملف السوري والملف الأوكراني، واللافت وبشكل مهم أن الاجتماع نتج عنه اتفاق تسهيل صدور قرار "تمديد وصول المساعدات الدولية إلى سوريا عبر الحدود"، وكان إلحاح الروس على فتح الملف الأوكراني عبر سلسلة الاجتماعات التي عقدتها اللجنة المشتركة الأميركية الروسية لافتاً، وانعكس ذلك عبر حملات كلامية وتراشق إعلامي يتلو كل اجتماع على القضية الأوكرانية وصولاً إلى الصورة الأوضح بعد انسداد الأفق في وجه روسيا لفتح أي ثغرة في جدار العقوبات السميك على النظام السوري، وعدم مقدرتها على الدفع باتجاه التطبيع مع جزار دمشق وبالتالي تدفق أموال إعادة الاعمار، أو المقايضة بين الملف السوري والأوكراني، لذلك اندفعت موسكو إلى أعلى الشجرة وبدأت تحضر لغزو أوكرانيا كما قال الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخراً "يبدو أن روسيا بالتأكيد ستغزو أوكرانيا".

خلاصة القول كان الملف السوري بالنسبة لروسيا هو ورقة لها هدفان أساسان يخدمان بعضهما البعض.

الأول: العودة إلى الساحة الدولية بقوة واستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي عبر السيطرة على مياه المتوسط الاستراتيجية والورقة السورية كانت مثالية بشكل أكبر من المتوقع.

الثاني: في حال عدم النجاح في تحقيق الهدف الأول يتم الانتقال إلى الخطة ب المتمثلة بالمقايضة للملف الأوكراني بالسوري.

ولكنّ الهدفين تعثرا في المضي إلى الأمام، وليس أوضح من البيان الروسي الذي أصدرته البعثة الروسية في الأمم المتحدة في 26/1/2022 مهاجمةً به الولايات المتحدة الأميركية في دعم الإرهاب وهيئة تحرير الشام وسرقة الثروات السورية على حد زعمهم، واضح من البيان أنه يترافق مع أجواء الحرب في أوكرانيا، وأن موسكو  ما تزال تلح على المقايضة بين الملفين ولا سيما أن بوتين انتقل إلى القوة الخشنة في تنفيذ وتثبيت نفوذ روسيا الجديدة ذات النكهة السوفييتية البوتينية، ولكنه يبدو أنه صعد إلى الشجرة فعلا ولا يعرف متى ومن سينزله عنها، والسؤال الأهم هل سيستخدم بوتين ورقة الشمال السوري وإدلب لكي يحفظ ماء وجه في حال لم يستطع خوض حربه في أوكرانيا، هذا السؤال ستكون الإجابة عليه في الميدان فتركيا وحلفاؤها في الناتو لا أعتقد أنهم في وارد رؤية روسيا تنفرد في الملف السوري بشكل مطلق.