التغييب القسري في سوريا .. جريمة مستمرة متعددة الضحايا

2021.08.27 | 05:24 دمشق

thumbs_b_c_362782e4480e5f25a540a723ddfbd8dc.jpg
+A
حجم الخط
-A

في اليوم الثلاثين من شهر آب عام 1983 أطلق "اتحاد أميركا اللاتينية لرابطات أقرباء المعتقلين المختفين" مبادرة تضمنت لفت انتباه المجتمع الدولي إلى مصير هؤلاء الأفراد الذين سجنوا في أماكن وظروف سيئة، يجهل ذووهم أو ممثلوهم القانونيون كل شيء عنهم، حيث كانت تنتشر ظاهرة السجن السري بشكل كبير في عدد من دول أميركا اللاتينية آنذاك. ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا اليوم ذكرى سنوية للمطالبة بإنهاء ظاهرة الإخفاء والتغييب القسري والتضامن مع عائلات المختفين حول العالم وتقديم المساعدة لهم.

قد يظن البعض أن ضحايا جريمة الإخفاء أو التغييب القسري تطول فقط الشخص الذي تم اعتقاله أو إخفاؤه، والحقيقة أنها تشكل انتهاكاً لحقوق الضحية المباشرة، وأيضاً لحقوق أقاربه وأصدقائه والمجتمع، إذ عادة ما يُستخدم الإخفاء القسري كاستراتيجية وسياسة ممنهجة من قبل الأنظمة المتسلطة لبث الرعب داخل المجتمعات التي يحكمونها، فالشعور بانعدام الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل يصيب أيضاً مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل. وهذا هو السبب الذي جعل القانون الدولي يعترف بأن عائلات المغيبين، مثل الأشخاص المختفين تماماً، بأنهم ضحايا أيضاً. فالاختفاء المفاجئ وانعدام الأخبار عن الضحية وعدم اليقين حول مصيرها والخوف من الانتقام يتسبب بمعاناة كبيرة لا تنتهي لدى هذه العائلات التي تتأرجح مشاعرها بين الأمل وخيبة الأمل والقلق والخوف من الانتقام في حال إثارة هذه القضية عبر وسائل الإعلام أو من خلال التواصل مع المنظمات الدولية ذات الصلة.

الإخفاء القسري، كما يوحي اسمه، هو جعل شخص يختفي رغماً عنه، وفجأة في كثير من الأحيان. ومن ثم فهو يشير إلى القبض على شخص أو احتجازه أو اختطافه، ثم رفض الاعتراف بمصيره أو مكان وجوده وحتى إنكار القيام بالاعتقال أساساً. وغالباً ما ترتكب هذه الجريمة من قبل موظفي الدولة الرسميين مثل الجيش أو الشرطة أو الأجهزة الأمنية، أو على أيدي مجموعات منظمة كالميليشيات، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبرضاها أو بقبولها.

وعادة ما تلجأ الأنظمة القمعية إلى هذه الجريمة للتخلص من الأشخاص المناهضين لسياساتها، أو الذين تعتبرهم "مصدر إزعاج" لها في ظل شيوع ثقافة الإفلات التام من العقاب، وانعدام الضمانات القانونية والقضائية، إذ لا وجود لمذكرات التوقيف، أو المقاضاة العادلة، أو ضمانات الدفاع، ما يجعل الأشخاص المختفين قسرياً في وضع هش وخارج نطاق القانون، لذلك غالباً ما يتعرضون لخطر التعذيب أو التصفية والإعدام.

الإخفاء القسري، كما يوحي اسمه، هو جعل شخص يختفي رغماً عنه، وفجأة في كثير من الأحيان. ومن ثم فهو يشير إلى القبض على شخص أو احتجازه أو اختطافه

ومنذ بداية الثورة السورية استخدم النظام السوري الإخفاء القسري كسلاح حرب للتخلص من مناهضيه وبث الرعب في حاضنة الثورة بحجة مكافحة الإرهاب، وتشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى وجود أكثر من 100 ألف مواطن سوري مختفين بشكل قسري يتحمل النظام المسؤولية عن نحو 85 بالمئة من إجمالي هذه الحالات، ومعظم هؤلاء جرى اعتقالهم خلال السنوات الثلاث الأولى من انطلاق الحراك الشعبي، في حين تقف بقية المجموعات والفصائل والميليشيات وسلطات الأمر الواقع وراء الـ 15 بالمئة المتبقية.

ويتوقع عاملون في مجال التوثيق أن الرقم الحقيقي للمختفين قسرياً في سوريا أكبر بكثير من ذلك، لأن معظم العائلات تفضل عدم إثارة قضية أقاربها على الإعلام أو التواصل مع المنظمات المحلية أو الدولية بشأنهم، لأنهم يعتقدون أن ذلك سوف يعرضهم للانتقام من قبل الجهة التي قامت بالاعتقال، ويعرض أقاربهم المعتقلين لمزيد من التعذيب أو الاضطهاد أو يقطع الأمل بخروجهم نهائياً، لذلك تلجأ العوائل إلى الوسطاء والسماسرة مقابل مبالغ مالية طائلة لمعرفة مكان اعتقالهم أو التهمة الموجهة لهم، الأمر الذي جعل من ذلك ظاهرة رائجة تحولت إلى تجارة تدر مبالغ مالية ضخمة لهؤلاء الوسطاء.

وبحسب القانون الدولي فإن الإخفاء القسري يعتبر جريمة ضد الإنسانية خاصة عندما يُرتكب ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، ولا تسقط هذه الجريمة بالتقادم. وهو ما نص عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006، والتي أكدت مادتها الأولى على أنه "لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري"، و"لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثنائية أخرى، لتبرير الاختفاء القسري". فضلاً عن ذلك، فإن لأسر الضحايا المطالبة بمعرفة الحقيقة فيما يتصل باختفاء أحبائهم، والحق في طلب التعويض وجبر الضرر عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم ورد الاعتبار.

وينتهك الإخفاء القسري سلسلة من القواعد العرفية في القانون الدولي الإنساني، ويتضمّن انتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية كالحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية والحق في عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة (التي تقلل من كرامة الإنسان) والحق في عدم إلقاء القبض أو الاحتجاز بشكل تعسفي والحق في محاكمة عادلة وعلنية.

ومنذ شهر أيلول/سبتمبر 2011 وجه فريق الأمم المتحدة المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي رسالة إلى حكومة النظام للسماح له بزيارة سوريا للتحقيق في حالات الاختفاء القسري، إلا أن الأخير لم يمنح الموافقة للفريق رغم مطالباته المتكررة منذ ذلك الحين. مع ذلك لاحظ الفريق أن حالات الاختفاء القسري في سوريا تحدث بلا انقطاع ولا عقاب في جميع أنحاء البلاد، وأكد تلقيه تقارير عديدة تشير إلى تعرض عدة أفراد من الأسرة نفسها للاختفاء القسري، بمن في ذلك نساء وقاصرون لا تتجاوز أعمارهم 7 سنوات، ما يشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وبحسب التقارير فإن نطاق هذه الانتهاكات ونمطها يمكن اعتبارهما من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وطالب الفريق في تقرير صدر منتصف عام 2020 مجلس الأمن مجدداً بالنظر في إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما طالب حكومة النظام بتحمل مسؤوليتها الكاملة فيما يتعلق بالأشخاص الذين تحتجزهم، وأن تُبين مصيرهم ومكان وجودهم لذويهم، وأن تخضعهم لمحاكمات عادلة. وفيما يتعلق بالأشخاص الذين توفوا أثناء احتجازهم، طالب الفريق حكومة النظام بتيسير إجراء تحقيقات فورية وشفافة لتحديد أسباب هذه الوفيات وملابساتها، وإذا تبين أنها ناجمة عن أعمال جرمية، فيجب تقديم مرتكبيها إلى العدالة وتعويض الضحايا وأسرهم. وكانت العديد من عائلات المختفين قسرياً قد صُدمت بعد مراجعتها دوائر السجل المدني في سوريا عام 2018 لإنجاز بعض المعاملات الإدارية حيث اكتشفت أن أقرباء لها قد تم تسجيلهم من قبل دوائر النظام كمتوفين دون أن يتم إبلاغها بتاريخ أو سبب الوفاة أو مكان دفنهم، وبلغ عدد هذه الحالات نحو 991 حالة بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وبالرغم من العدد الهائل لحالات الإخفاء القسري في سوريا والتي تقدرها منظمات حقوقية بأكثر من 100 ألف حالة، إلا أن ما تم الإبلاغ عنه لفريق الأمم المتحدة العامل لا يتجاوز 485 حالة فقط، وتفسير ذلك هو إما عدم الثقة بهذه المنظمات الدولية وعملها، أو خوف الأهالي على مصير أقاربهم، فهما اللذان يمنعان الأهالي من الإبلاغ لذلك يفضلون اللجوء إلى طرق أخرى بدل إثارة قضاياهم لدى هذه المنظمات، وربما كان الجهل وغياب الوعي لدى المجتمعات المحلية بأهمية الإبلاغ عن مثل هذه الحالات سبباً في عدم الإبلاغ عنها.

أخيراً، يمكن القول إن الإخفاء القسري يشكل أحد الجرائم الجسيمة التي ارتكبها النظام في سوريا خاصة بعد عام 2011، وهو جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير ضحية الاختفاء ومكان إخفائه، وما دامت هذه الوقائع قد ظلت بغير توضيح.، لذا لا بد من إثارتها في جميع المحافل الدولية والدفع بها باستمرار لتكون ضمن أي مفاوضات أو تسوية سياسية مستقبلية حفاظاً على حقوق الضحايا وعوائلهم وللقضاء على هذه الظاهرة التي دفع كثير من المواطنين السوريين أثماناً باهظة لها.