إدارة الوقاحة والتوحش

2021.10.07 | 05:53 دمشق

_120811449_gettyimages-1235688910.jpg
+A
حجم الخط
-A

"انتظروا المزيد قريباً"! هذا ما وعد به جيرار ريل رئيس الاتحاد العالمي للصحفيين الاستقصائيين إثر ظهور "وثائق بنما" في العام 2016. وفعلاً لم يتوقف عمل هذا التحقيق المستمر حتى الآن، إذ بعد الخطوة التالية التي كانت "وثائق الجنة" في العام 2017، تظهر الآن "أوراق باندورا"، لتضيف ضلعاً جديداً، للإطار المحيط بمشهد الفساد حول العالم.

آنذاك، وبعد نشر التحقيق الأول، ارتفع الأدرينالين في دم الصحفيين، وهم يرون كيف تُظهر أقلامهم وأبحاثهم الحقائق، من أجل الإطاحة بشركاء الفساد، لكن سرعان ما تبددت الآمال، حينما لم يتغير شيء، ولم تودي الوقائع المثبتة بأي أحد إلى العقاب!

وحينما ظهرت الدفعة الثانية من الوثائق في العام التالي، بدا أن سقف التوقعات قد انخفض كثيراً!

وها نحن نشهد ردود الأفعال على التحقيق الثالث، حيث ترتفع عقيرة المتضررين منه بالبيانات الصارخة المنددة والساخطة، على الصحفيين وعلى تحقيقهم هذا، الذي بات كما ورد في بعض التصريحات "يهدد الأمن المحلي، والاستقرار، والسلم الأهلي"!

تتكثف مرافعات المتضررين بفحوى تقول: إن هذه الوثائق تجاوزٌ للسياسات المعتادة، وخرق للحدود المرسومة، وخروج عن القواعد الموضوعة، التي تجعل عامة الناس، يحترمون الخاصة، أي القادة والسياسيين والوزراء، ويخشونهم، ويرهبون أفعالهم.

أفدح ما تفصح عنه هذه الردود هو أن أصحابها يعتقدون بأن ما فعلوه جزء من "الخاص والعادي"، الذي لا يجب على أحد النظر فيه، أو الحديث بشأنه!

وفي بواطن الاعتراض يسأل هؤلاء: "كيف يسمح اتحاد الصحفيين الاستقصائيين هذا، لأفراده، بأن يقتربوا من الحقوق الطبيعية للزعماء والسياسيين؟ أيظن ناشرو هذه الأوراق أنهم سيؤثرون على حقوق أصحاب الملايين في شراء العقارات، والسعي لعدم دفع الضرائب من خلال تسجيلها بأسماء هذه الشركات"؟!

ولعل أفدح ما تفصح عنه هذه الردود هو أن أصحابها يعتقدون أن ما فعلوه جزء من "الخاص والعادي"، الذي لا يجب على أحد النظر فيه، أو الحديث بشأنه!

يذكرني ما يحدث هنا، بكتاب "إدارة الخجل" الذي سبق أن أهملت الاطلاع عليه بسبب عدم الاهتمام، حيث جال عنوانه في رأسي كثيراً، وأوصلني إلى السؤال: ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم، وهم يقفون بين عتبة التهرّب الضريبي، وعتبات أخرى أشد قتامة، كتبييض أموال التجارات الممنوعة، والفساد السياسي، ثم يخرجون على الناس، بتصريحات يدافعون فيها عن أنفسهم؟!

لقد باتوا ظاهرة عالمية، وامتداداً جغرافياً وسياسياً، تحالفت فيه نخب دولية مع أخرى "عالم ثالثية"، وبقايا أنظمة مستبدة شبه متهالكة، وأخرى ناهضة اقتصادياً. فضلاً عن دول شيوعية محكومة بأنواع من البرجوازيات البيروقراطية والطفيلية وغيرها، مع الكارتلات العملاقة لتجارة المخدرات والسلاح والدعارة والجريمة المنظمة (المافيا).

يترابط هؤلاء مع بعضهم في شبكة مستترة، فيتساندون، طالما أن المصالح العميقة واحدة. رغم أنهم على السطح يظهرون كمتنافرين، لا يمكن لهم أن يتلاقوا بأيّ حال من الأحوال!

المعترضون على فضائح "باندورا" في الواقع، لم يقوموا بإدارة خجلهم، أو حتى وقاحتهم، ففي عالم المال المكتسب من خلال الهيمنة على مصائر الشعوب، والتحكم بالأموال العامة، وبيع موارد الدول الفقيرة إلى الشركات العابرة للقارات، لا يسمح السياق بالتفكير بهذه الطريقة، التي تبدو مستوردة من عالم الأخلاق، والحقوق والواجبات، حيث لا حاجة للتعاطي مع الصحفيين ومحاولاتهم الوصول إلى الحقائق ونشرها أمام الجمهور، لأنهم غير مؤثرين ببساطة!

فطالما أن القانون العام السائد في كل أصقاع المعمورة هو أن يرتكب المجرمون جرائمهم، أمام أعين الجميع، وأن تكون أقصى ردود الأفعال هي توجيه النظر بعيداً عما يجري، فإن الإفلات من العقاب، لن يكون مخجلاً، لا بل إنه سيضيف إلى كلمة الوقاحة، كلمة أخرى هي "التوحش"!

نرى كيف يزداد منسوب التوحش حول العالم، وكيف تستعر خطواته، حيث يصبح قتل البشر مجرد تفصيل على هامش ترسيخ السيطرة، والاستيلاء على الموارد، من أجل خدمة المصالح!

نبضات الدماء في العمل الصحفي الذي يسعى لكشف فساد النخب الحاكمة والمسيطرة، في الواقع الراهن، تبدو غير مؤثرة، ولا تؤدي إلى التغيير الذي ينشده أصحابها، بعد أن بلغ تحالف النخب الحاكمة شأواً كبيراً، يجعلها ترى هذه التحقيقات على أنها مجرد ترهات، لا تعطل اقتصاداً أسود، ولا تقطع طريقاً محمياً بقوى الأمن وبالجيوش!

تبعاً لهذا، نرى كيف يزداد منسوب التوحش حول العالم، وكيف تستعر خطواته، حيث يصبح قتل البشر مجرد تفصيل على هامش ترسيخ السيطرة، والاستيلاء على الموارد، من أجل خدمة المصالح!

لا يمكن ههنا وضع نموذج صارخ أو مثال محدد يدل على ما يجري، لقد بلغ الأذى الذي يستهدف البسطاء والمقهورين درجة عامة غير مسبوقة، فأينما ولى المرء وجهه، سيعثر على كوارث مشتعلة!

لا تستطيع جهود اتحاد الصحفيين الاستقصائيين الإحاطة بها كلها، خاصة أن عدم الترحيب به، تجاوز منع أفراده من العمل ليصل إلى قتلهم كما جرى في حالة الصحفية والمدونة البارزة دافنه كاروانا غاليزيا، التي تم اغتيالها في العام 2017، بعد أن ساهمت في تحقيق "وثائق بنما" بالكشف عن تورط زوجة رئيس الوزراء المالطي في فضائح مالية.

حادثة لن تنسى، تستهدف في البداية والنهاية جوهر عمل الصحفيين الذين يقارعون الجهات العامة والخاصة محلياً ودولياً، التي بات لسان حال تحالفها الفاسد، يفصح وبكامل توحشه، عن كراهية معلنة للعمل الصحفي الاستقصائي، وللقائمين عليه.