علاج انفصام الرؤية الروسية بسيط !

2018.12.09 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

خلال انخراطها في القضية السورية، ما استنفرت موسكو مرة أكثر من استنفارها من عبارة المبعوث الأمريكي "جيمس جيفري" حول إنهاء مسلسل (أستانا). حتى أنقرة عبّرت عن عدم ارتياحها تجاه التصريح واصفة إياه بـ “غير الموفق". شريكهما الثالث في (أستانا)، طهران، لم ينبس ببنت شفة؛ فما  فيه من حصار وتهديد بالاقتلاع من سوريا يكفيه.

كل ذلك التراشق يدور حول إدلب بحكم ارتباط جملة من الخيوط السورية بها. فإدلب تَجَمٌع لكل من رُحِل داخلياَ في سوريا- وهم بالملايين؛ وفيها كل مَن دُمِغً بدمغة الإرهاب؛ والاتفاق حولها استعصى في أستانا لأكثر من جولة، ولم يرَ النور إلا في سوتشي؛ وهي بين اثنين فقط من شركاء أستانا، وغياب أو تغييب الثالث "إيران". إدلب أيضاً شكّلت دولياً خطاً أحمر غير معلن، لأن أي هجوم عسكري يعني تدفق تلك الملايين إلى بلاد سلفاً تضيق ذرعاً بما لديها من لاجئين سوريين.

عبارة جيفري، التي استنفرت فرقاء أستانا، تكسر من جانب، وتجبر من جانب آخر. الجبر فيها التمسك والإشادة باتفاق سوتشي التركي - الروسي حول إدلب؛ والكسر فيها انتفاخ أستانا وتمددها لأمور سياسية بهدف التشويش والتعطيل على مسار جنيف. ومن هنا رأينا جيفري -بعد ساعات من تصريحه إياه- في لقاءات مع المسؤولين الأتراك لإيضاح الصورة.

ربما يكون "اتفاق سوتشي" حول إدلب أهم خطوة أنجزتها موسكو منذ تدخلها في سوريا. هناك إجماع سياسي عالمي على هذا المنجز في الحفاظ على الحياة البشرية، وهناك تصميم على اقتلاع تلك المجموعة المصنفة إرهابية. وهناك انخراط قيادات أوربية (فرنسا وألمانيا) مع أصحاب هذا الاتفاق في قمة عُقدت في استنبول، وأخرى قادمة على الطريق.

ربما يكون "اتفاق سوتشي" حول إدلب أهم خطوة أنجزتها موسكو منذ تدخلها في سوريا، هناك إجماع سياسي عالمي على هذا المنجز في الحفاظ على الحياة البشرية

إضافة إلى ما سبق، شكّل ذلك الاتفاق التمهيد الطيب للعملية السياسية من خلال تعبير المجتمعين عن تصميمهم على تيسير عقد اللجنة الدستورية. ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن أن تكون روسيا منجزة لأمر بهذه الأهمية، وتراها تعمل على هدمه أو تصمت على استهداف الآخرين له؟

الاستنفار الروسي تجاه زيادة الانخراط الأمريكي في القضية السورية يصيب روسيا بمزيد من التوتر والإرباك؛ فتراها على استعداد لارتكاب المعاصي نكاية بالطهارة؛ فتجدها على استعداد لتخريب ما يراه العالم خطوة ناجحة كاتفاق سوتشي حول إدلب. ومن هنا فهي تتعامى عن الحشود العسكرية للنظام ولإيران حول ما اتُفِقَ عليه كـ “منطقة عازلة"؛ وتشاهد الخروقات من جانبهما يومياً، ولكن لا تتردد عن اتهام الجانب الآخر بذلك زوراً وبهتانا. ومنذ أسبوعين، كانت روسيا مساهمة (دعائياً على الأقل) في تلك المسرحية السمجة الدموية حول استخدام الكيماوي مؤخراً، ليتبين أن النظام قام بذلك. وربما كان الهدف من ذلك أن يكون ذريعة للهجوم على إدلب أو غطاء احتياطيا، إذا ما استخدم النظام السلاح الكيماوي.

في هذا السياق، قد لا تكون "هيئة التفاوض السورية" بالحسبان بالنسبة لموسكو، لكن اهتمام المجموعة المصغرة، وتحديدا الولايات المتحدة، بدعوتها إلى حضور اجتماعاتها كمعارضة، كان كفيلاً برفع درجة توتر موسكو لتفتح النار عليها، وتدفع بمنصتها ضمن الهيئة لتشن ذلك الهجوم على الهيئة. وهذا يدل على حالة الإرباك، وربما انفصام الرؤية لديها تجاه قضية أضحت عاجزة عن الخروج منها بأي جنى سياسي، بعد أن استثمرت فيها عسكريا وسياسياً كل هذه السنوات.

قيل إن قلب حافظ الأسد كان مع أمريكا، ويده في جيب الروس؛ طبعاً إعلامياً ونفاقاً كانت الصورة أن القلب مع الروس

انفصام الرؤية الذي يولد الإرباك وحتى الاستنفار قابل للعلاج إذا ما قاربت روسيا القضية السورية بجوهرها، واستراتيجياً لا تكتيكياً من أجل جنى عابر. عندها لن يؤزمها تصريح أمريكي هنا أو موقف أمريكي هناك.

قيل إن قلب حافظ الأسد كان مع أمريكا، ويده في جيب الروس؛ طبعاً إعلامياً ونفاقاً كانت الصورة أن القلب مع الروس. أما شعبها فكان تاريخياً معها قلباً وقالبا. والآن رغم أن هذه الروسيا تختلف عما سبقها، إلا أن بعض الخصائص تدوم. ومن هنا، ما يمكن أن يعيد بعض ثقة الشعب السوري بروسيا؛ وما يمكن أن يخفف من ملفات الجرائم العسكرية التي ارتكبتها بحق السوريين، عندما كانت تقصف وتدمر وتقتل وتستعرض أسلحتها في بلدهم؛ وما يمكن أن يخفف أيضاَ من الجرائم السياسية، عندما كانت تحمي النظام بالفيتو وتستّر على جرائمه، ومن الجرائم الإعلامية بتماهيها مع التضليل الإعلامي الذي كان يمارسه إعلام النظام وأبواق إيران؛ وما يمكن أن تكسبه روسيا سياسيا ودولياً بعد عناء دموي تجاوز ثلاث سنوات؛ وما يمكن أن يفوّت الفرصة على المتربصين بروسيا الراغبين برميها في حضيرة الدول المارقة؛ هو فقط أن تعمل على تطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، وأن تساهم بإخراج ميليشيات إيران من سوريا. فهل هذا كثير، سيد بوتين؟!