2019.. عام ثورات واحتجاجات في العالم وإبادة جماعية في سوريا

2020.01.01 | 18:00 دمشق

qsf_almrt.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثمة قواسم عديدة في معظم الاحتجاجات التي اندلعت في هذا العام، منها ارتفاع الأسعار والمظالم الاقتصادية وقضايا الفساد الكثيرة التي تحوّلت لاحقاً إلى مطالب سياسية تخص نظام الحكم القائم، والدفاع عن الحريات، فشعور الناس، أو جماعة منهم، في كثير من البلدان، بأن أصواتهم غير مسموعة، وأن أنظمتهم السياسية غريبة عنهم، ومزروعة قسراً في بلادهم، لم يترك أمامهم سوى طريق وحيد لإيصال صوتهم ومطالبهم هو الاحتجاجات في الشارع، بقصد إجراء التغيير أو استعادة الحقوق المسلوبة. وما ميز تلك الاحتجاجات هيمنة عنصر الشباب، أما مصيرها فكان مختلفاً تبعاً لطبيعة النظام السياسي في كل بلد، وتحديداً تبعاً لدور الجيش وبنيته.

في فرنسا وهونغ كونغ، حيث الأنظمة الديمقراطية، حيث تجاوبت الحكومتان مع مطالب المتظاهرين، فالحكومة الفرنسية استجابت لمطالب المتظاهرين "السترات الصفراء" في نيسان 2019، وهم الفئات المهمشة وسكان الضواحي الذين تضامن معهم شباب المدن الكبرى، الذين كانوا أكثر المتضررين من رفع الحكومة لضرائب الوقود، ناهيك عن تدني أجورهم. أما في هونغ كونغ، فكانت شرارة التظاهرات مشروع القرار المقترح في آذار 2019 لتسليم البلاد إلى الصين، مما يشكل حالة تراجع من نظام ديمقراطي إلى نظام فاسد استبدادي، على الرغم من النمو الاقتصادي الهائل، بمعنى أن هذه التظاهرات هي للدفاع عن الحريات وضد الاستبداد المتمثل بالصين، وبالرغم من سحب الحكومة لمشروع القرار، ظلت الاحتجاجات مستمرة خوفاً من غزو صيني لبلادهم.

وفي فنزويلا، كانت الاحتجاجات رداً على الأزمة الإنسانية التي شملت ارتفاعًا شديدًا في التضخم ونقصاً حاداً في الغذاء والدواء، وارتفاع معدلات الجريمة والبطالة الناتجين عن سوء حكم مادورو الشعبوي، لكن تلك المطالب لم تبلغ غايتها، إذ ظلّ الرئيس مادورو في السلطة، بسبب انقسامات المعارضة، ومساندة قوات الأمن له، فضلاً عن الدعم الروسي والكوبي. وفي إيران، كانت شرارة الاحتجاجات رفع الدعم عن الوقود (وهو البلد النفطي) حيث عمّت أكثر من مئة مدينة وبلدة تظاهرات تطالب بتغييرات سياسية أهمها الحرية، لكن حكومة الملالي تمكنت من إخماد التظاهرات آنياً، نتيجة القمع المفرط بحق المتظاهرين، كما فعلت سابقاً، غير أن التظاهرات الأخيرة كشفت عن حقيقة واضحة ومقلقة للنظام، وهي أن حكومة الجمهورية الإسلامية من دون قاعدة شعبية، إنها حكومة الملالي والحرس الثوري، بمعنى آخر إنها حكومة طرف فئوي أقلوي، ضد غالبية الشعب.

للتظاهرات والثورات في البلدان العربية طعمٌ آخر، طعم العلقم، فلم تنجُ ثورة -غير التونسية- من الاعتقالات والقتل

للتظاهرات والثورات في البلدان العربية طعمٌ آخر، طعم العلقم، فلم تنجُ ثورة -غير التونسية- من الاعتقالات والقتل، وذلك لكون السلطات في بلادنا هي سلطات عسكرية استولت على مقاليد الأمور عبر الانقلابات، ودعمتها بنشر المخابرات بين البشر لإحكام السيطرة أكثر، وبطريقة ما حوّلت البلاد إلى مزارع نهب لها وللمحسوبين عليها، وللبقية التهميش والإفقار والسعي الدائم نحو الحصول على لقمة العيش، وكان الاعتقال والموت نصيب كل من يعترض.

ففي الجزائر، حيث نظام الحزب الواحد منذ أكثر من ستين عاماً، وتحت شعارات شعبوية، حولت النخبة الحاكمة البلاد إلى وكر فساد ونهب، والشعبَ إلى رعايا، إلى أن انتفض الشباب احتجاجاً على ترشح الرئيس (الصورة) للمرة الخامسة للرئاسة، في استهتار فاضح بالبلاد والعباد، داعين إلى إجراء إصلاحات سياسية واسعة النطاق أولها تنحي بوتفليقة، ومحاسبة الفاسدين من أركان حكمه، والانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. أما في السودان، فكانت شرارة الثورة تخفيض الدعم للوقود والخبز في كانون الأول 2018، ثم سرعان ما تحولت إلى احتجاجات عامة في مختلف المدن، بمطالب اقتصادية وسياسية أوسع.

لكن الجيش، وهو الحاكم الفعلي في كلا البلدين، التف على مطالب المتظاهرين، وأجبر الرؤساء على الاستقالة بعد فترة قصيرة من التظاهرات (بوتفليقة بعد ستة أسابيع من الاحتجاجات، والبشير بعد أربعة أشهر)، ففي السودان، تولى مجلس عسكري انتقالي الحكم مدعوماً من دول خليجية، وتمكن بعد مفاوضات طويلة مع قوى الثورة والتغيير من تشكيل حكومة واتفاق على إدارة البلاد. أما في الجزائر فقام الجيش مؤخراً بإجراء انتخابات وسط رفض شعبي ومقاطعة لتلك الانتخابات، ونصّب رئيساً رغم إرادة الناس، دافعاً البلاد نحو الهاوية.

مؤخراً حوكم البشير، الدكتاتور السابق، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات، أما بوتفليقة فلا يزال رهن الإقامة الجبرية. أما مشاكل البلاد التي كانت سبباً في اندلاع التظاهرات في كلا البلدين، وهي هيمنة العسكر والقمع وتفشي الفساد وغياب المشاركة السياسية،  فلا تزال قائمة، مما يفتح المجال لاستمرار الاحتجاجات لتحقيق مطالب الشعبين في الحرية والاستقرار والتنمية.

ما يجمع بين لبنان والعراق، حيث اندلعت الاحتجاجات على نطاق واسع، هو الهيمنة الإيرانية على كلا النظامين والبلدين، من خلال حزب الله في لبنان وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، ناهيك عن فساد النخبة السياسية القائمة على أساس المحاصصة الطائفية والمظالم الاقتصادية الكثيرة، مثل ارتفاع البطالة وتدني الأجور لدرجة تجويع البشر، التي كانت الشرارة في اندلاع الثورتين، في نفس الشهر (تشرين الأول) استجابت الحكومتان لبعض المطالب الشكلية من تخفيض الضرائب ورواتب المسؤولين، واستقالة رئيسي الحكومة، علّها تخفف من شدة الاحتجاجات التي ما تزال تعمّ غالبية المدن وتنشد التغيير العام، الذي تعارضه الميليشيات في كلا البلدين، ومن ورائهما إيران، غير أن الاحتجاجات ما تزال مستمرة، وعنف الحكومة يزداد، مما ينذر بجر البلاد نحو كارثة كبرى.

أما سوريا، وفي عامها التاسع من ثورتها ضد نظام العائلة الاستبدادية، فقد تحوّلت إلى ساحة تستعرض فيها روسيا أسلحتها الجديدة في أجساد المدنيين السوريين، وسط تصارع دولي أوسع على النفوذ لا دور للسوريين فيه، فالنظام الذي استجلب كل قوى وميليشيات القتل، لمواجهة المطالب المحقة بالكرامة والحرية للمتظاهرين السلميين، أصبح ألعوبة لا بد منها للقوى الخارجية، وبخاصة روسيا وإيران، بغية التوقيع على عقود بيع ورهن البلاد، إضافة إلى دوره في عمليات القتل والتنكيل والتهجير، وفي المقابل تنازلت المعارضة تدريجياً عن استقلاليتها النسبية، وتحولت إلى أداة لتبرير واقع تفرضه القوى المتصارعة لدرجة الشرخ عن جمهور الثورة.

ما جرى ويجري في سوريا، لا يمكن تسميته إلا بأنه حرب إبادة وتهجير، فبعد عام من التدخل الروسي البشع، جرى تهجير عشرات الآلاف من حلب في نهاية العام 2016، وفي العام 2018 تهجير مثلهم في الغوطة الشرقية، إلى الريف الشمالي لحلب وإدلب، الذي يشهد اليوم أوسع عمليات قتل وتهجير، لكن هذه المرة إلى المجهول، أمام أعين ومسامع المجتمع الدولي، من دون أن تكون هناك أي ردة فعل، وكأن كل هذا القتل والتهجير مجرد تفاصيل لاتفاقات ونزوعات امبراطورية للدول المتصارعة على سوريا.

يمكن لكل الطغاة أن يفرضوا، بقوة الحديد والنار، شكلاً ما من الحكم، ويمكنهم أن يقتلوا ويشردوا، لكن بالتأكيد لا يمكنهم الاستمرار، ببساطة لأنهم ضد الحياة، لأنهم قوى موت، والنصر للحياة في النهاية، رغم أن الأثمان باهظة جداً.