وللمعتقلة السياسية حكايتها

2023.10.09 | 05:04 دمشق

وللمعتقلة السياسية حكايتها
+A
حجم الخط
-A

صدرت مذكرات السجناء السياسيين في عهد حافظ الأسد في كتب مستقلة، بعد أن أتيحت لأصحابها سنوات من التفرغ للاسترجاع والتأمل والاستعانة بذاكرات رفاق التجربة. في حين اتسمت معظم مدونات معتقلي بعد الثورة على يد ابنه بالظهور في شكل شهادات سجّلها موثقون أو منظمات حقوقية مختصة.

في السياق الأول نُشرت مؤلفات عديدة كتبها رجال بطبيعة الحال. غير أن للمرأة أيضاً حصتها المتراكمة ببطء منذ طرح كتاب «خمس دقائق وحسب» في أواسط التسعينات، الذي يروي تجربة هبة الدباغ المعتقلة لاتهامها بعضوية جماعة الإخوان المسلمين. وكذلك كتاب عزيزة جلود «إبراهيم اليوسف وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا»، الذي حمل تجربتها السجنية فضلاً عن سيرة زوجها المعروف، والتنظيم.

من الضفة اليسارية جاءت أربع كتب من المذكرات السجنية وإن حمل منها وصف «الرواية». كلها من تأليف معتقلات سابقات من «حزب العمل الشيوعي»، صاحب التجربة الأوسع سورياً في انتساب النساء. وهي «الشرنقة» لحسيبة عبد الرحمن؛ «عينك على السفينة» لمي الحافظ؛ «ظل الغروب» لأميرة حويجة، و«داخل المكان... خارج الزمان» لسلام السباعي، الذي صدر قبل أشهر عن دار عشتار في تورنتو بكندا.

في الثانية والعشرين من العمر، طالبة في السنة الأخيرة بجامعة حلب، اعتقلت سلام السباعي ومكثت شهراً في فرع المخابرات العسكرية وسبعة في فرع فلسطين، لتُنقل إلى سجن دوما للنساء حيث ستبقى أربع سنوات من دون محاكمة.

أودعت الأجهزة الأمنية فيه 75 معتقلة سياسية منسية أكثرهن جامعيات، خريجات أو طالبات. 40 منهن على ذمة قضايا إسلامية كالإخوان والطليعة

حسبما روت نزيلات جديدات فيه عن الأقدم كان هذا المكان قصراً لأحد ولاة العهد العثماني قبل أن يصير سجناً يتبع وزارة الداخلية، ويتألف من مهجعين كبيرين نسبياً واثنين صغيرين نسبياً وعدة غرف. وفي زمن احتجاز الكاتبة إبان النصف الثاني من الثمانينات كان يضم 130 سجينة قضائية من المتهمات بالقتل والمخدرات والدعارة والاحتيال ومخالفة أنظمة الأمن الاقتصادي، مما يدخل في اختصاصه. تُعرَض هؤلاء على محاكم أمام قضاة بحضور محامين وتحت القانون. وأودعت الأجهزة الأمنية فيه 75 معتقلة سياسية منسية أكثرهن جامعيات، خريجات أو طالبات. 40 منهن على ذمة قضايا إسلامية كالإخوان والطليعة، و35 من اليساريات المنتميات إلى حزب العمل والبعث الديمقراطي وبعث العراق.

ترصد المؤلفة بدء الاحتكاكات مع الإسلاميات منذ وصول اليساريات إلى السجن الذي سبقت الإخوانيات إليه، وتحولت إلى عاصفة من الإشكالات تكاد تنتهي بالاشتباك بالأيدي. لم تتمكن المجموعتان من عزل المعاملات والمعايشات عن السياسة، وتجنباً لصدامات ستعاقبهن الإدارة عليها تفاصلتا وبدتا كمن يعيش في قريتين متجاورتين. غير أن الخلافات انتقلت إلى داخل الجماعة الإيديولوجية نفسها، إذ طفت على السطح جوانب الأنانية والسخف التي نبشتها ظروف الاعتقال القاسية على الجسد والقلب والروح والوجدان. تقول السباعي: فشلنا في منع اختلافنا بالكبائر والصغائر، فنحن نمارس حياة غير طبيعية على مساحة مترية. لا رحابة صدر لدينا أبداً، من أين نأتي بها؟

حاولت اليساريات تنظيم شؤونهن. فعرضت إحداهن طريقتين للعيش؛ نمط رأسمالي خاص ونمط «كومونة» اشتراكي يكون فيه كل ما يأتي للفرد؛ من طعام وشراب وملابس ومنظفات وقرطاسية ومهرَّبات، ملكاً للجميع. رمت بجاكيتها الصوفي الفاخر ليكون أول الملكيات المشتركة وتبعتها الأخريات انسجاماً مع خطهن اليساري أصلاً. وفي أول الأمر بدا نمط الحياة المعيشي الكوموني مبهراً قبل أن يتعثر ويبهت بفعل الفردانية التي تضيق بالحواجز. اخترن «وزيرة اقتصاد» تُنتخب دورياً وتوضع مقدّرات السجينات، من الواردات وهدايا الزيارات ومبيعات المصنّعات السجنية، بتصرّفها.

وفي مرحلة لاحقة اخترن لجنة ثقافية نشطة وفاعلة تفرعت عنها جريدة حائط سرية تحوي خواطر وأشعاراً ورسوماً، ثم تولدت عنها لجنة مسرح. فقد كانت أثمن مهرّباتهن من الخارج كتباً يقرأنها بالتناوب، كما خضن نضالات عدة لفتح مكتبة السجن أمامهن دون جدوى. وكذلك فشلت حملتهن للسماح للطالبات الجامعيات منهن بالتقدم إلى امتحاناتهن ولو بالقيود.

وفي إحدى المراحل قررن الإضراب عن الطعام لتحقيق مطالب منها الحصول على أكل نظيف مقبول، وطبابة ودواء بالحدود الدنيا، وحل مشكلة الاكتظاظ العددي الذي غصت به المهاجع والمرافق وساحة التنفس، والسماح بالزيارات لأقارب الدرجة الأولى على الأقل. وفي اليوم الأول بدت الهمة عالية والتفاؤل على أشدّه. ثم بدأ الوهن يظهر على الأجساد التي عجزت أكثرها عن المسير في اليوم السادس. وفي الأيام التالية أغمي على بعض المضربات لكن ذلك لم يدفع مدير السجن لاستطلاع أوضاعهن المزرية في أثناء جولته، فقررن إنهاء الإضراب في يومه الثالث عشر بعد أن تبيّن أنه لا يعني أحداً غيرهن.

ترسم السباعي بورتريهات مؤثرة للسجينات من رفيقاتها وغيرهن. غير أن أكثرها حساسية ما روته عن الأطفال. فحين اعتقلت الطبيبة الرفيقة كانت حاملاً في شهرها الثاني وأنجبت ابنتها ماريا في السجن حيث خصصت لها المعتقلات، من زميلات أمها، زاوية مليئة بالصور والألعاب والهدايا والألوان. ثم بدأت تتكلم وتسير حتى اعتدن على البحث عنها بين المهاجع المختلفة كابنة للجميع. أما حنان، التي كانت تكبر في بيت عمها، فلم تصدّق ما يقال لها عن حب أبيها وأمها ما داما قد تركاها وغابا إلى أمكنة مجهولة، رغم إرسال الأول جزدان خرز طفولي من سجن تدمر، والثانية طاقية صوف مشغولة بشغاف القلب من سجن دوما.

تقول الكاتبة: أمي غير راضية عن مسيرتي السياسية التي أوصلتني إلى المعتقل أبداً، لكنها ستتبرأ مني إن وقّعت على ورقة المساومة بالتعاون الأمني وخرجت

اعتادت السجينات على التعرض للمساومة التي تتضمن إخراجهن مقابل التعاون مع الأجهزة الأمنية في المستقبل، ولم يكن هذا مقبولاً عندهن. كانت المساومات تجري في فرع التحقيق الذي تُنقل إليه دفعة من السجينات لأيام تبدأ بالكلمات اللطيفة وفناجين القهوة وتنتهي باللكمات والركل وأقذع الشتائم، وبالتهديد بالدولاب والكرسي الألماني، وبالبقاء في السجن إلى الأبد. تقول الكاتبة: أمي غير راضية عن مسيرتي السياسية التي أوصلتني إلى المعتقل أبداً، لكنها ستتبرأ مني إن وقّعت على ورقة المساومة بالتعاون الأمني وخرجت.

ولذلك لم يخطر الإفراج على بالهن عندما استدعين جميعاً إلى الفرع فاصطحبن من حاجياتهن ما يكفي لأيام. لكن التعامل هناك كان مختلفاً؛ فكّوا قيودهن وأوقفوهن في ثلاثة صفوف ثم ألقى أحد الضباط كلمة قصيرة أبلغهن فيها أن القيادة قررت التكرم بالإفراج عنهن. تقول السباعي: بلغ الأمر بنا حدود البلاهة ولم نتحرك فصاح العناصر بنا ممازحين: «يلا اطلعوا... شو ما عنا شغل غيركن!».

في ما يصلح أن يكون خلاصة لسنوات هذه التجربة في «بطن الغولة» تقول: في منتصف ليلة رأس السنة الأولى لاعتقالنا ارتفع صوتنا عالياً قوياً بأغنية مارسيل خليفة «منتصب القامة أمشي». وفي منتصف ليلة رأس السنة الثانية غنّينا، بصوت حرصنا على إبقائه عالياً قدر الإمكان، أغنيته الأخرى «شدّوا الهمة... الهمة قوية». وفي منتصف رأس السنة الثالثة غنّينا بهدوء أغنية فيروز «عالهدا... عالهدا... عالهدا». في منتصف رأس السنة الرابعة لا أعرف ماذا غنّت رفيقاتي، لأني كنت حزينة جداً في ذلك المساء، بكيت كثيراً وذهبت إلى النوم باكراً.