وزير دفاع من طرطوس وممرضة من جبلة

2023.10.16 | 07:33 دمشق

وزير دفاع من طرطوس وممرضة من جبلة
+A
حجم الخط
-A

في مطلع هذا الشهر أصدرت «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» تقريراً بعنوان «دفنوهم بصمت: آليات القتل والإخفاء في مشفى تشرين العسكري». وهو يشرح بنية هذه المؤسسة الطبية الأكبر في البلاد، التابعة لوزارة الدفاع، ودورها المحوري في انتهاك حقوق الثوار والمعارضين المرضى والجرحى، إهمالاً أو تعذيباً أو قتلاً، فضلاً عن منح التغطية القانونية لما تمارسه فروع المخابرات من تنكيل يصل إلى الموت، بتقارير وفاة طبيعية من قسم الطب الشرعي، قبل دفن الجثث في مقابر جماعية بإشراف المخابرات العسكرية وتنفيذ الشرطة العسكرية.

على رصيف هذا الجهد المهم أشارت «الرابطة» إلى صورة مختلفة للمشفى بوصفه المكان المفضّل لعلاج كبار رجالات النظام، ولا سيما العسكريين منهم، في داخل البلد. كما كشفت عن حادثة غريبة تظهر لأول مرة على العلن، هي تعرّض وزير الدفاع السابق، العماد علي حبيب، للإهانة في المشفى، الذي دخله في تموز 2011 للاشتباه بإصابته بجلطة قلبية، على خلفية رفضه، أو تلكؤه في، زج الجيش في المعارك الدموية ضد الانتفاضة التي ولدت قبل أشهر.

ووفق شهادات متقاطعة جمعتها الرابطة وصل حبيب إلى مشفى تشرين بصحبة دوريتين من حرسه الخاص، تتبع إحداهما للشرطة العسكرية والثانية للمخابرات العسكرية، غير أن الإدارة لم تسمح بدخول أحد معه سوى مرافقه الشخصي برتبة رائد. وفي أثناء إقامة الوزير في المشفى طُلبت له استشارة عصبية فحوّله العميد الطبيب (ع، س) إلى قسم التصوير. وقبل وصوله إليه فوجئ بمجموعة من الممرضات، وفي مقدمتهن رئيسة التمريض في المشفى شهربانة الجردي، يشتمنه بألفاظ مقذعة وينهلن عليه بالضرب بأحذيتهن ويتهمنه بالتهاون في حمايتهن، وأمثالهن، من احتمال الاغتصاب الذي قد يمارسه «السنّة» في حقهن. وعند تدخل مرافقه لمنعهن حجزه ضابط أمن المشفى عنهن وتدخل بشكل تمثيلي خجول لإبعادهن وهو يردد: «ما بيصير... له له يا صبايا! بعّدوا هيك... روحوا ع شغلكن».

الشائعات وقتئذ نسبت الإيعاز بذلك إلى ماهر الأسد، عن طريق اللواء عمار سليمان مدير «إدارة الخدمات الطبية»، وأن ماهر هدد الوزير بالقتل لولا تدخل اللواء علي مملوك

تضيف مصادر أخرى أن الحادثة شهيرة جداً في أجواء المشفى، وأنها صارت محل تفاخر من فعلنها، وأنها كانت ذروة سلسلة من الأذى المعنوي الذي تعرّض له العماد في الأسبوع الذي قضاه فيه لإجراء قسطرة وتركيب شبكة قلبية. وأن الشائعات وقتئذ نسبت الإيعاز بذلك إلى ماهر الأسد، عن طريق اللواء عمار سليمان مدير «إدارة الخدمات الطبية»، وأن ماهر هدد الوزير بالقتل لولا تدخل اللواء علي مملوك، الذي أقنع «القصر» بتركه يموت بتأثير المرض والاكتفاء بإقالته، وهو ما فعله بشار الأسد في 8 آب 2011.

تتفق شهادات كثيرة لضباط ومسؤولين منشقين على أن العماد كان يتحفظ على زج الجيش في المعركة ويقترح الاكتفاء بالشرطة، لا اعتراضاً على النظام أو انشقاقاً عنه بل بحثاً عن مصلحة النظام واستمراره ووحدة البلاد وسلامتها. وهو، بالمناسبة، كان موقف بعض أعتى رجالات الحرس القديم، غير أن الفارق بينهم وبين الوزير هو أنهم كانوا متقاعدين بينما كان يشغل الموقع الثاني في قيادة الجيش والقوات المسلحة.

ولد علي محمد حبيب محمود في عام 1939 في قرية بيت عمران زينة قرب صافيتا التابعة لطرطوس. وللمنطقة دلالتها الكثيفة؛ فهي من الريف العلوي الأكثر تحضراً وتعليماً وهجرات، تربطها بمحيطها من المسيحيين والسنّة أواصر وثيقة وتعدّ جزءاً من نسيجه الاجتماعي مما باعد بينها وبين العقلية الطائفية أيام الانتداب والحكم الوطني. وفي عهد حافظ الأسد لم يبرز منها عدد كبير من الضباط أو المسؤولين، كجزء من محافظة طرطوس التي كانت تشكو من الغبن والمظلومية بالمقارنة مع وفرة هؤلاء من ريف اللاذقية.

ولا تخرج سيرة علي حبيب عن هذا السياق. فهو من عائلة أقرب إلى اليسر، ذات حيثية اجتماعية في المنطقة. تطوع في الكلية الحربية في عام 1959 وتخرج في 1962. وعلى الأرجح أنه لم يكن عضواً في «حزب البعث العربي الاشتراكي» في محيط جغرافي يميل إلى «الحزب القومي السوري الاجتماعي»، وإن انتسب إلى البعث لاحقاً للبقاء في السلك العسكري بعد هيمنة هذا الحزب على الدولة والجيش والمجتمع.

تدرّج في الرتب العسكرية معتمداً على كفاءته. شارك في حرب تشرين 1973 ونال بنتيجتها قدماً ممتازاً «لقيامه بواجبه على أكمل وجه». نُقل، ضمن ملاك الفرقة الأولى، إلى لبنان عقب التدخل السوري. وهناك لم يتدخل في الحياة العامة ولم يكن بابه مفتوحاً للمتملقين والطامحين وطلاب الحاجات. في عام 1982 خاض، كقائد للواء 58 ميكا، معركة السلطان يعقوب ضد القوات الإسرائيلية التي اجتاحت لبنان. ثم تسلم قيادة الفرقة السابعة. في عام 1990 كان قائد القوات السورية التي أرسلت إلى الخليج للمساهمة في عملية «عاصفة الصحراء» لإخراج جيش صدام حسين من الكويت. وفي عام 1994 عيّن قائداً للقوات الخاصة خلفاً للواء علي حيدر في مرحلة «تعيين تكنوقراط جبناء بدل القادة الشعبويين» بحسب مراقب. في 2002 صار نائباً لرئيس هيئة الأركان، ثم رئيسها في 2004. وفي حزيران 2009 صار وزيراً للدفاع في تسلسل بيروقراطي أقرب إلى الإصلاح.

يُجمع عارفو حبيب على وصفه بأنه ضابط محترف قادر على ترتيب الوحدة التي يستلمها وتحويلها من قطعة مهلهلة إلى منظمة. لم تثر حوله اتهامات بالفساد أو بسرقة مخصصات العساكر أو إذلالهم. منضبط ومهيب وغير شتّام أو كفور كما كان نمط أقرانه. مثقف نسبياً. متزوج من الدكتورة في التاريخ نايلة غانم. ويحمل أولاده الأربعة (ابنان وبنتان) حرف الدال قبل أسمائهم بسبب دراستهم اختصاصات طبية مختلفة من دون تلاعب. وأخيراً هو غير دموي ولا طائفي.

رغم ولائه لنظام حافظ الأسد، ولابنه من بعده، لم يكن حبيب وزير الدفاع المناسب لحالة الحرب التي أعلنها بشار الأسد منذ خطابه الأول بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية.

تتعدد الروايات هنا. فينقل البعض أن بشار طرده من اجتماع «خلية الأزمة» بعد أن أبدى رأيه بعدم تدخل الجيش، ويسرّب البعض عنه، بعد تقاعده، حديثاً شفوياً قال فيه إن هذا «الولد بدو يدمر الجيش والبلد»، مبيناً أن ماهر الأسد شتمه وصفعه لميله إلى حياد المؤسسة العسكرية، وأنهم «لا يحترمون أحداً».

عقب إقالته ظهر حبيب على التلفزيون الرسمي ليؤكد ولاءه للنظام ويبرر تقاعده بالأسباب الصحية. وفي ما بعد سافر إلى تركيا مرتين، في 2013 و2016، وفي كل منهما شاعت أخبار حول انشقاقه وعن لقاءات غير مؤكدة له مع المعارضة. وقد كلّفته زيارته الثانية إقالة ابنته هيام محمود من إدارة مشفى جراحة القلب الجامعي إثر اتهامها بالفساد. فامتنع أبو غياث عن الكلام غير المباح حتى وفاته في آذار 2020.

كانت من الممرضات اللواتي انتدبن إلى البيت الرئاسي للعناية بناعسة عباد، والدة حافظ الأسد، في أيامها الأخيرة

بالمقابل تنتمي شهربانة إسماعيل الجردي إلى قرية بستان الجامع القريبة من مدينة جبلة على أوتوستراد بيت ياشوط، وهي منطقة مكتظة بالنجوم والنسور والسيوف والشرائط الحمراء. ولدت عام 1962 وتدرجت في مشفى تشرين حتى وصلت إلى رئاسة تمريض قسم العناية المشددة ثم رئاسة طاقم التمريض كله. ونتيجة مزيج الخبرة والقدم والثقة كانت من الممرضات اللواتي انتدبن إلى البيت الرئاسي للعناية بناعسة عباد، والدة حافظ الأسد، في أيامها الأخيرة. وهناك لم تكن غريبة، إذ إن شقيقها نبراس صف ضابط صارم من أفراد الحرس الذي يرافق «الرئيس» في جولاته الداخلية وبعض سفرياته إلى الخارج.

تنتمي شهربانة إلى عائلة علوية فقيرة من قرية مزارعي حمضيات صغيرة جداً، تدين بكل ما حازته، من تعليم ورتب عسكرية ووظائف حكومية متعددة، لآل الأسد الذين لم ينسوا ممرضتهم المعتمدة عند تقاعدها الذي صادف تأسيس «نقابة التمريض والمهن الطبية والصحية المساعدة»، فأصبحت عضو مجلسها المركزي وشغلت منصب أمينها المالي، وما تزال.

شهربانة الجردي
شهربانة الجردي