هل للقوة منطق؟

2023.11.06 | 06:35 دمشق

هل للقوة منطق؟
+A
حجم الخط
-A

أتت افتتاحية العدد الجديد من صحيفة «النبأ»، التي تصدر رسمياً عن «تنظيم الدولة» (داعش)، بعنوان «المسلمون ومنطق القوة». وجاء فيها أن قوى الكفر في العالم تزوّد نفسها بأسلحة دمار فتاكة، أحلّوها لأنفسهم وحرّموها على غيرهم، ثم تنشر، عبر قواها الناعمة، مصطلحات كاذبة منافقة من نوع «التعايش» و«التسامح» و«حماية المدنيين» من النساء والأطفال واحترام «حقوق الإنسان».

وهي لا تفعل ذلك، بحسب صحيفة داعش، إلا ذرّاً للرماد في أعين المستضعفين كيلا ينهضوا لمنافسة الكافرين في الميدان الذي يفهمه العالم وهو «منطق القوة»، ويكفّوا عن «الحديد والنار»، وهما السبيل الوحيد الذي يقف به نزيف الدماء وتُستردّ الحقوق وفق «النبأ».

تأسف الافتتاحية لأن هذه المصطلحات وجدت طريقها إلى «الكثيرين ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذا الزمان»، ممن «سُحِروا بإعلام الطواغيت» فدفعهم الخوَر إلى التبرؤ من العنف والمناداة بالسلمية. وهذا حال من يدّعون نصرة إخوانهم، الذين يُقتلون ليل نهار، بالهتافات والمظاهرات والاحتجاجات الهزيلة التي «لا تزيد أمم الكفر إلا يقيناً بضعف المسلمين» واطمئناناً إلى «قلة حيلتهم».

في منبتيه الرئيسيين، العراق وسوريا، لم يستطع أن ينفذ التنظيم سوى أربع عمليات خلال الأسبوع الفائت، في حصيلة تعدّ من الأضعف له في هاتين الدولتين المركزيتين. فضلاً عن أن هذه العمليات واهنة

في العدد نفسه أدلة بيّنة على تهالك التنظيم الذي اعتمد القوة منطقاً منذ نشأته وحتى الآن. ففي منبتيه الرئيسيين، العراق وسوريا، لم يستطع أن ينفذ التنظيم سوى أربع عمليات خلال الأسبوع الفائت، في حصيلة تعدّ من الأضعف له في هاتين الدولتين المركزيتين. فضلاً عن أن هذه العمليات واهنة، إذ تقتصر على استهداف حاجز وثكنة في العراق، مما أدى إلى تدمير كاميرتين حراريتين، وعلى إعطاب آليتين لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في كل من الرقة ودير الزور في سوريا. بالإضافة إلى عمليات هامشية في زوايا رخوة أمنياً من أفغانستان والكونغو ونيجيريا، مما يؤشّر إلى تشتت التنظيم.

ليس كل المسلمين دواعش بالطبع، كما تقول تعميمات مجحفة غاضبة، غير أن هذه الجماعة الوحشية لم تنشأ من فراغ مفصول عن سياق المنطقة كذلك. فقد استندت إلى تراث من المظلوميات، وتقاطعت في قراءتها لها، دون أن تقصد، مع طيف واسع جداً من حجج سبق أن بلورتها تيارات سياسية لا تقتصر على الإسلاميين بل تتعداهم إلى الماركسيين والقوميين، كما هو واضح من مرافعة افتتاحية «النبأ» ضد «الكافرين»، أو الغرب والمجتمع الدولي بتعبيرات الآخرين.

ومن المهم هنا أن نتذكر عبارة جمال عبد الناصر الشهيرة «ما أُخِذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة». وهي جملة حفرت في ذاكرة العرب الحديثة عندما قالها زعيمهم التاريخي، بعد هزيمته التاريخية كذلك في حرب حزيران عام 1967، وكررها في خطاب متأخر قبل وفاته المفاجئة وكأنها وصية، ووصفها بأنها «كبرى الحقائق».

والحال أن السوريين تعرّضوا لتأثير كلا الخطابين أكثر من سواهم. على الأقل لأنهم خاضوا مع مصر عبد الناصر وحدة طوعية بين أعوام 1958 – 1961، وانضمت أجزاء من بلادهم إلى وحدة إجبارية مع الأراضي المجاورة التي كانت تسيطر عليها داعش من العراق في سنوات 2014 – 2017. وبين هذه وتلك خضع السوريون لسلطة بعثية متحمّسة للقتال، دون أن تعدّ له عدّته، في الستينات، ثم لعقود من عهد حافظ الأسد، الديكتاتور المؤمن بالقوة على كل المستويات، والذي قضى سنوات حكمه في إعداد لا ينتهي لمواجهة إسرائيل تحت شعار «التوازن الاستراتيجي» الذي كان حربياً بالمطلق أو بالدرجات الأولى والثانية والثالثة. فعسكرَ المجتمع، وأتاح لنظامه المبرر «الوطني» لامتلاك ترسانة من السلاح الكيماوي المحرّم دولياً بذريعة تكافؤ الردع مع القدرات النووية الإسرائيلية. وستكون هذه الأسلحة جزءاً مميتاً مما استخدمه ابنه بشار عدة مرّات ضد المنتفضين عليه خلال العقد الماضي.

أتيحت للسوريين فرصة هشة لاستعادة السياسة عندما بدؤوا ثورتهم في عام 2011 بشكل سلمي ومطالب مدنية، سواء أكان ذلك عن قناعة أصلية أو بسبب أخذهم في الاعتبار توازن القوى المختل بينهم وبين النظام. غير أن الحكم القائم على العنف أدخل البلاد في أتون معارك للمحافظة على بقائه، تحولت إلى حروب موضعية معقدة بفاعلين خارجيين. وعزّزت الوحشية ميل الكثيرين إلى الإيمان بالقوة، الذي لم يبتعدوا عنه سوى مسافة قليلة في الأساس.

إن «منطق القوة» الذي تدعو إليه افتتاحية صحيفة داعش، وسواها، مدخل إلى التوحّش ونمط الغابة، فليس للقوة منطق

علاقات القوة جزء من تكوين البشر، والحروب مفاصل معتادة من تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم. وقد ثبت أن دعوات السلام الشاملة تنتمي إلى مملكة ليست من هذا العالم. غير أن هذا يختلف عن عبادة القوة وعن اللجوء إليها حَكَماً وحيداً بين الجماعات والدول. وإن «منطق القوة» الذي تدعو إليه افتتاحية صحيفة داعش، وسواها، مدخل إلى التوحّش ونمط الغابة، فليس للقوة منطق. يسبق العقلُ القوة ويصحبها ويتلوها ليعيد الحياة إلى نصابها بعد جراحة عنيفة طارئة، وليحول دون انقلاب الحياة إلى متوالية حربية لا نهاية لها. يحدد المنطق للقوة متى تتحرك ومتى تهجع بناء على معايير العدالة والاستطاعة والقدرة على تحمل النتائج، وبذلك يضمن سلامة الأفراد واستقرار المجتمعات.

وإلا فأمامنا تجربة داعش التي تحولت من دولة عدوانية شرسة قائمة بالقوة في المنطقة إلى فلول من صائدي الكاميرات الحرارية!