نهاية عصر الفروسيّة وبداية عصر البغال

2019.12.29 | 18:06 دمشق

la_tkhbr_alhsan.jpg
+A
حجم الخط
-A

"كأنما لم يكن يعلم أنّ في العالم خياراً آخر هو الحرية"! هكذا وصفَ الكاتبُ الحصانَ الذي أفلتَ من الرَّسَن الملتفّ حول عنقه منذ عقود، وانطلقَ حرّاً في البراري. وكأنه يقصدُ الشعوب التي مهما صبرتْ على القيد والسجن والتدجين، لا بُدَّ لها أنْ تحطّم أغلالها في النهاية، وتنطلقَ حرّةً نحو الحياة.

في روايته الأخيرة "لا تُخبرِ الحصان" (دار ممدوح عدوان ودار سرد، 2019)؛ يحدّثنا الروائي السوريّ ممدوح عزّام عن أسرةٍ تعيش في إحدى قرى محافظة السويداء، في الفترة الممتدة ما بين انقلاب البعث عام 1963 وهزيمة حزيران 1967. تتألف العائلة من الأب الدَّرَكيّ المتقاعد سالم النجّار، وحصانه الذي رافقه طوال فترة خدمته في الدَّرَك، والأم سليمة، وخمسة أبناء هُم فاضل ونوفل وكامل وواصل وكاملة. قبل أنْ يكتشفوا أنّ والدهم متزوّج بالسرّ من امرأةٍ أخرى، ولهُ منها ولد.

تكثر الأحداث والحكايات الصغيرة في الرواية الممتدة على 252 صفحة، والتي لن أذكر تفاصيلها لكيلا أُفسَد على القرّاء متعة قراءتها. بل سأكتفي بتفكيك بعض الشيفرات الدلالية التي وظّفها الكاتبُ ببراعة، وأُعرّج على الأسئلة التي أثارتها الروايةُ فيّ؛ مثل الريف والمدينة، المحليّة والعالميّة.

يبدو لي أنّ الحصان الأصيل، بطل الرواية الصامت، الحصان الحَرُون القادم من عصر الفروسية، يمثّلُ سوريا ذاتها. أما صاحبُه الدركيّ المتقاعد "سالم النجار"، فهو يمثل الأنظمة التي حكمت سوريا بعد الاستقلال وحتى انقلاب البعث 1963. فالدركيّ "سالم" عسكريّ طبعاً، وهو حازمٌ قاسٍ داخل البيت وخارجه، وهو ذكوريّ فحوليّ كثير العلاقات مع النساء، تاركاً زوجته لأعمال المنزل وتفريخ الأطفال فقط. وهو بعيدٌ عن البيت (عن الشعب) منذ سنوات وسنوات، ولا يعرف مشاكله حقّ المعرفة. وعلى الرغم من فقره المدقع بعد التقاعد، إلا أنه ظلّ محافظاً على أناقته وهندامه مثل "دون كيشوت"، وعلى رمزية السلطة المتمثّلة في الحصان الأصيل، وكأنّ سرجَ الحصان هو كرسيُّ الحكم.

ابنه الأكبر "فاضل" شابٌّ بعثيّ، يتبوّأ هرم السلطة في البيت أثناء غياب الأب، وهو مستبدٌّ طاغٍ على أمّه وأخوته، وجبانٌ تافهٌ خارج المنزل. يزدادُ عنفه وعدوانه بعد نجاح انقلاب البعث: "كبُرَ فجأةً في بضعة أشهر، وصار يزنُ تسعين كيلوغراماً من اللحم والعضلات"، إلى درجة أنه كاد أنْ يقتل أخاه خنقاً، ثم ضربَ والدته. يعلّق أخوهُ نوفل على الحادثة: "إنّ العالم كلُّه سيكون على خطأٍ إذا ظلَّ مثلُ هذا السفّاح حيّاً"، وهذا ما يحدث في سوريا حتى يومنا هذا. ولكونه بعثيّاً؛ يطالبُ "فاضل" بحقّه النضالي من الوظيفة العامة، كأنْ يكون عنصرَ مخابراتٍ مثلاً، لكنهم يخيّبونَ أملَه ويوظفونه في "اتحاد مربّي الأغنام" في مدينة السويداء. وهناك يضع عينَه على واحدةٍ من الموظفات، التي يقول إنه لم يكن يحبّها حقاً، بل يشتهيها. وهو بذلك يمثّل علاقة حُكم البعث مع المدينة السورية، التي لم تكن علاقة حبّ يوماً، بل علاقة اشتهاءٍ حسّي وماديّ ناجمة عن جوعٍ وحرمانٍ قديمين. وعندما ترفضُه شادية (المدينة)، لا يصدّقُ ذلك، ثم يهدّدُها وزملاءَهُ في الوظيفة بكتابة تقارير عنهم.

هكذا يجمع "فاضل" البعثيّ بين الانتهازية والمخابراتية والخيانة والنذالة، فتأتي هزيمة حزيران كنتيجةٍ لتضافر هذه الصفات

ولـ "فاضل" دورٌ في هزيمة حزيران أيضاً، فخلال حرب الستة أيام، يكون "فاضل" قد أرسلَ أخاهُ الشيوعيّ "نوفل" إلى أقبية المخابرات بعدما كتبَ تقريراً عنه. ويكون -في الوقت- ذاته يعاشرُ زوجةَ أحد الجنود المرابطين على الجبهة. وهكذا يجمع "فاضل" البعثيّ بين الانتهازية والمخابراتية والخيانة والنذالة، فتأتي هزيمة حزيران كنتيجةٍ لتضافر هذه الصفات.

أما الأخ الشيوعي "نوفل"؛ فقد جعلَ الكاتبُ من صفاته الحميدة نقيضاً لـ "فاضل" البعثي وصفاته المشينة، فقدّمَهُ كمثقّفٍ ومُحبّ ومحبوبٌ وطيّب. لكن هذه الشخصية اللطيفة سوف تفاجئني بانتمائها "البكداشي" فيما بعد، فأنا أعتقد أنّ البكداشي النمطيّ لا يختلف في شيءٍ عن البعثي النمطي، ولذلك فلن ينجحَ الصراعُ الدراميّ -إنْ كان فكرياً أو أخلاقيّاً- بينهما. وأظنُّ أن الكاتب قد وافقني على ذلك في آخر مشاهد الرواية، حينما يجعل "نوفل" (الشيوعي) يشترك مع "فاضل" (البعثي) والعمّ "فريد" (سلطة الدين والعادات) في محاولتهم العنيفة لـ "تَكْدِيْن" الحصان الأصيل وربطه إلى عربة جرّ، بعدما انتهى عصرُ الفروسية بانقلاب البعث وهزيمة حزيران، وابتدأ معهما عصرُ الكُدش والبغال.

الراوية -كما هو واضح- رواية بيئة اجتماعية مع خلفية تاريخية، وهي بالطبع ليست أول رواية عن بيئة السويداء. وقد أثارتْ فيّ أسئلة عن الرواية السورية بالعموم؛ مثل: كم روايةً محلّية تحتملُ بيئة السويداء؟ وكم قصةً محليّة تحتمل بيئة إدلب؟ وهل سيكون اهتمامُ القارئ بالرواية المحليّة الثانية والثالثة والرابعة بنفس درجة اهتمامه عند قراءة الرواية الأولى؟! الإشكاليّة التي أحاولُ طرحَها هي أن الرواية الحديثة هي ابنةُ المدينة الصناعية الحديثة، وابنةُ اغتراب الفرد عن بيئته ومحيطه وعن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البدائية والبسيطة. وهذه المدينة الصناعية الحديثة غير متوفرة في سوريا، وغير متوفرة في العالم العربي باستثناء مدينة القاهرة. أما مدنُنا السورية فهي عبارة عن تجمّعات ريفيّة، وبعضُها كانت مُدناً تجارية وحرفيّة ثمّ تريَّفَتْ وشبِعَتْ تَرْيِيْفاً منذ انقلاب البعث وحتى اليوم. ولذلك تميلُ بعضُ الروايات إلى المحليّة والريفيّة، بسبب غياب المدينة الحديثة بطبقاتها وصراعاتها. وحتى إنّ بيئةً مثل مجتمع الصيّادين في اللاذقية؛ هي بيئة ريفيّة بسيطة، لأن صيد السمك وبيعه في السوق لا يختلف عن جني البندورة وبيعها في السوق، كلاهما نمط إنتاج بدائي.

ثمة مقولة تتكرّر منذ عقود: "الطريق إلى العالمية يبدأ من المحليّة"، وهي تُدعّم بأمثلة عن كتّاب كانت المحليّةُ طريقهم إلى العالمية، مثل نجيب محفوظ وغابرييل غارثيا ماركيز ورسول حمزاتوف. لكنْ هل كلّ محليّة سوف تقود إلى العالمية حقاً؟ ألا يمكن أن تكون المحليّة سيفاً ذا حدّين؟ فتُعيقُ انتشار العمل الأدبي خارج بيئته؟!

لا أعتقد أن هنالك قواعد مُسبَّقة تحدد نجاح العمل الأدبي أو عالميّته سلفاً، فالموضوع يتعلّق بآراء الآلاف من القرّاء والنقاد والمهتمّين. لكنني أعتقد أنّ المحلّيةَ وَصْفةٌ تُستخدَم لمرة واحدة، أما تكرارُها فيجعلُ منها أقلّ جاذبية وإغراء.

كلمات مفتاحية