نظام الأسد والحزب السوري القومي الاجتماعي: وضاعة الفاشية

2019.09.07 | 20:29 دمشق

+A
حجم الخط
-A

للوصول إلى السلطة، كان هناك طريقتان إما عبر الثورة الشعبية أو عبر صناديق الاقتراع. لكن في سوريا الخمسينات، جنحت الأحزاب "العقائدية" نحو طريقة أخرى، هي الانقلاب العسكري. البعث و"القومي الاجتماعي" أولاً، والشيوعيون والإخوان المسلمون بدرجة أقل، انخرطوا في تنافس محموم نحو تدبير الانقلاب العسكري. لا صناديق الاقتراع ولا الثورة الشعبية. الدبابة وحسب هي وسيلة الوصول إلى السلطة. الحزبان الأكثر جاذبية للضباط هما "البعث" و"القومي"، طالما أنهما معاً يتميزان بالدعوة القومية والأفكار الفاشية والعسكريتاريا.

كانت لحظة 1957 حاسمة في هذا التنافس بين الحزبين. اغتيال الضابط البعثي عدنان المالكي صاحب النفوذ في الجيش والمخابرات، أدى إلى شن حملة ناجحة لتصفية الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإخراجه عملياً من الحياة السياسية السورية، وتطهير الجيش من محازبيه.

ظل "القوميون" معارضين لنظام "البعث" وبقي حزبهم محظوراً. وبعد أربع سنوات، قام هذا الحزب البائس بمحاولة انقلابية بالغة السذاجة في لبنان، أودت بقيادته إلى السجن حوالي تسع سنوات.

مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، بدا أن هذا "البعثي" متأثر بـ"تربية" و"ثقافة" زوجته أنيسة مخلوف ابنة العائلة القومية السورية. فكانت عروبيته مشوبة ببعض الانحياز إلى الهوية السورية. ومنذ منتصف السبعينات، راح الأسد يغلّب "الدولة" (سلطته) على "البعث". ومن أجل تعزيزها راح يتبنى شيئاً فشيئا شعار سوريا الكبرى، في سعيه العملي للإمساك بقضيتين "مصيرتين": فلسطين ولبنان. بما يضمن توازنه مقابل السعودية ومصر والعراق.. وإسرائيل.

قيادة الحزب القومي قضت سنوات الستينات في السجون اللبنانية وهي تقوم بـ"مراجعة" سياسية –عقائدية

قيادة الحزب القومي قضت سنوات الستينات في السجون اللبنانية، وهي تقوم بـ"مراجعة" سياسية –عقائدية، بدءاً من محاولة أنطون سعادة الانقلابية التي أدت إلى إعدامه عام 1949، إلى أخطاء الحزب الفادحة في سوريا، ثم التحاقه بحلف بغداد ضد الناصرية والبعثية، عدا عن عدائيته لكل الحركات اليسارية. وكانت هذه المراجعة تتزامن مع المدّ الثوري وحركات التحرر في العالم وانطلاق المقاومة الفلسطينية وهزيمة 1967. لقد مات ذاك العالم القديم الذي كان ينتمي إليه أنطون سعادة وحزبه. ولذا، راحت قيادته تنغمس بتلفيقات عقائدية تمنحه شيئاً من اليسار وشيئاً من العروبة.. والأهم، الكثير من البراغماتية السياسية التي تجبره على التخلي عن نرجسيته المنتفخة والقبول بمبدأ العمل الجبهوي والتحالفات المرحلية.. إلخ.

تزامن خروج الحزب من السجون اللبنانية مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة. ورغم بقاء الحزب محظوراً في سوريا إلا أن القوميين شعروا بارتخاء القبضة عليهم. "التسامح" النسبي من الأسد تجاه القوميين، وتبدل نهج الحزب نفسه، أتاحا نوعاً من التقارب السياسي أو الحوار الضمني، بحذر وريبة، إلى أن أتى الامتحان في العام 1975. فالحزب الذي بات جزءاً من التحالف العريض اللبناني الفلسطيني (الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية)، والمنخرط للتو في الحرب الأهلية، وجد نفسه إزاء التعارض بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط في مأزق وجودي. فهو في لبنان لا يمكنه الخروج من الحركة الوطنية ومهادنة حزب الكتائب، العدو التاريخي، وفي سوريا لا يمكنه معارضة النظام وتكرار تجربة الخمسينات المأساوية. وعلى هذا المأزق أتى الانشقاق الكبير، الذي انقسم إلى قيادتين، جناح ضم التقليديين التحق في لبنان بـ"الجبهة القومية" (الأحزاب المتحالفة مع سوريا) وجناح ضم "اليساريين" –اصطلاحاً- وبقي ملتحقاً بـ"الحركة الوطنية".

في العام 1977، وبعد اغتيال كمال جنبلاط وهيمنة الأسد على لبنان، وعودة التفاهم بحكم الأمر الواقع بين منظمة التحرير والحركة الوطنية مع النظام السوري، انتفت تقريباً أسباب الانشقاق، فتوحد الحزب القومي برئاسة عبدالله سعادة. لكن ما تحقق في تلك التجربة أن نصف الحزب بات مخلصاً في ولائه لحافظ الأسد ونظامه.

بقي إرث الانشقاق في الحزب فاعلاً في صراعاته الداخلية، وفي مراكمة التباين "الإيديولوجي" بين تياريه. في لحظة 1982، مع اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميّل، اكتشفت قيادة الحزب أن جهازاً سرياً فيه يعمل مباشرة مع مخابرات نظام الأسد، وهو الذي نفذ عملية الاغتيال، من دون علمها.

بعد ثلاث سنوات، سيبدأ الأسد حملة تطهير في لبنان ضد العرفاتيين، وحرباً على المخيمات الفلسطينية بواسطة حركة أمل، وسيشن حرباً على طرابلس بواسطة أحزاب لبنانية من ضمنها الحزب القومي، وحرباً خفية للسيطرة على بيروت الغربية والدخول إليها مجدداً. كما سيبدأ الأسد خطة القبض على "جبهة المقاومة الوطنية" ضد الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء استقلالية قرارها. والأهم استحواذه دون سائر الدول العربية على "الساحة" اللبنانية، خصوصاً السعودية وليبيا والعراق..ومنع منظمة التحرير الفلسطينية من العودة إلى لبنان.

واحد من البنود المهمة في هذه الطموحات، الإمساك بالأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية وبعض المنظمات الفلسطينية المسلحة. وعليه، تطوع الجناح الموالي للأسد في الحزب القومي (أسعد حردان وعصام المحايري) للقيام بتمرد دموي مروع داخل الحزب والاستحواذ عليه. تم قتل قائده العسكري محمد سليم وبعض أعضاء المجلس الأعلى. وتحول حزباً سورياً صافياً بالمعنى الأسدي للكلمة. الجهاز السري الذي كان تابعاً للمخابرات السورية بات هو الحزب نفسه.

طوال الثمانينات، تحول هذا الحزب إلى أكثر الحركات السياسية في لبنان وسوريا ولاء وتابعية للنظام السوري وأجهزته المخابراتية والأمنية. وفي أحيان كثيرة برهن عن فعالية تضاهي فعالية البعثيين، حتى داخل سوريا. وقد كوفئ على ولائه بالسماح له بالنشاط العلني وإن لم يكن قانونياً. وكان حافظ الأسد في الأثناء يتبنى أكثر القاموس الإيديولوجية للحزب، حتى بدا أحياناً أن منسوب "سوريا الكبرى" يرتفع أمام منسوب "الأمة العربية الواحدة". وكان تبني خطاب الحضارة السورية وميراثها الأركيولوجي وثقافة بلاد الشام والتغني بأوغاريت وأرواد فيه الكثير من "الوجدان" القومي السوري.

الأسد الذي واجه تمرد الإخوان المسلمين واليساريين في مطلع الثمانينات كان يدرك أن الدعاية البعثية وحدها ليست فعالة كما ينبغي

والأسد الذي واجه تمرد الإخوان المسلمين واليساريين في مطلع الثمانينات كان يدرك أن الدعاية البعثية وحدها ليست فعالة كما ينبغي، وأن خطاباً يعلي من "الوطنية السورية" لكن الأوسع من حدود الدولة (القطر السوري برطانة البعث) من شأنه أن يعزز إيديولوجية النظام و"شرعيته" السياسية. وهذا ما وفرته بعض الشيء العدة الإيديولوجية للحزب القومي المعادي لليسار وللعروبة والإسلام، وهو الذي يجد "بيئة حاضنة" في أوساط المسيحيين الأرثوذكس والدروز والعلويين والإسماعليين، وهؤلاء أكثر التصاقاً بالنظام من الأكثرية السنّية التي يسلط عليها الأسد قمعاً مستمراً لإبقائها خاضعة ومستكينة.

في لبنان كانت المكافأة أكبر بكثير: المشاركة الدائمة في السلطة نواباً ووزراء، والتغلغل في الإدارة العامة والوظائف العليا، والجيش والأجهزة الأمنية، وتسهيل المصالح والأعمال لنخبته من المحازبين والمقربين، ولعب دورٍ فتاكٍ في النقابات، وتشجيعه على بقاء ميليشياته وقوته العسكرية، المحدودة.

منذ البدايات الأولى للثورة السورية، تبين ضعف حزب البعث وفوات خطابه وتفسخه.. فيما كان الحزب القومي، رغم أقلويته العددية ومحدودية انتشاره، جاهزاً ومستنفراً ومخلصاً للدفاع عن النظام. بل يمكن القول أنه حزب بشار الأسد، الذي استعان بوضوح بأفكاره الأشد فاشية لتبرير حرب الإبادة. الكراهية العميقة عند القوميين لكل التاريخ العربي في المشرق ولـ"الأعراب البدو" وللإسلام السنّي (ثقافة وسياسة) تلقفها الأسد في صوغ "حلف الأقليات" وفي ادعاء العلمانية ضد الوهابية.. إلخ. هذا التناغم بين الحزب والنظام، ظهر بحماسة القوميين في حمل السلاح ومحاربة الثورة.

طوال ثمانية أعوام، اضمحل الحزب السوري القومي الاجتماعي وذاب داخل شبكة أجهزة بشار الأسد، كميليشيات أو عصابات شبيحة يمولها ابن العائلة القومية، رامي مخلوف. وإذ تبدأ أجنحة النظام والعائلة اليوم صراعاتها المافيوية على غنيمة سوريا المدمرة، تُصاب عصبة هذا الحزب بالانشقاق والتبعية بين هذه الأجنحة.

من أوهام السلطة في الخمسينات انتهى هذا الحزب إلى الارتضاء بسمة "التابع" الخدوم، المخبر، دكاناً أمنياً يظن نفسه "النهضة" و"الأمة" ويتوهم قوة بمجرد تظلله بعباءة حزب الله أو أي فرع من فروع "المخابرات". وعلى هذا المنوال يستأنف تاريخه كزمرة فاشية شغوفة بالدسائس والمؤامرات والمغامرات الدموية. ومداوة صغره وصغائره لغوا خطابياً على مثال "إن الحياة وقفة عز فقط".