نساء الأنقاض السوريات

2023.02.01 | 07:44 دمشق

نساء الأنقاض السوريات
+A
حجم الخط
-A

ربما كانت الحروب هي رفيق الإنسان منذ بدء الخليقة وبقيت معه منذ الأزل وحتى لحظتنا الراهنة، خاضها الجنس البشري بنسائه ورجاله وأطفاله ودفع لها أثماناً باهظة.

ما حدث بعد ذلك أن شكل المجتمع قد تغير وقواعد النظام الأبوي جعلت من المرأة بعيدة عن ساحات المعارك لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، لكنها أخذت على عاتقها تحمل حصتها من الحرب بشكل مختلف فتولّت مهام التمريض والإطعام والتربية وحضانة الأولاد أو رعاية من فقدوا ذويهم في الحروب.

نساء كثيرات خضن الحروب جنباً إلى جنب مع الرجل في معارك معروفة، لكن ذلك كان حدثاً استثنائياً جعل من أسماء المحاربات مدعاة للتندر لتمتعهن بالشجاعة الكافية لحمل السلاح وخوض المعارك مثل الرجال.

لقد خرجت المرأة من دورها التقليدي المنوط بها في ظروف استثنائية فأثبتت قدرة وصلابة على تولّي أعمال قد لا تناسب بنيتها الجسدية

كان من الغريب أن تسود تلك الفكرة التي تحتكر صفات الشجاعة والقوة في خوض الحروب على الرجال فقط، على الرغم من أن الخراب الحاصل في العالم دفعت ضريبته النساء بينما كان الرجال يحملون أسلحتهم على الجبهات، فالشجاعة التي أظهرتها (نساء الأنقاض) في بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كانت حكاية فاقت نظيراتها بالشجاعة والقوة، إذ أخرجوا بلاداً جديدة من تحت الأنقاض بالمعنى الحرفي والمجازي معاً وساهمن في صنع دولة مختلفة عما كانت عليه قبل الحرب وأصبحت اليوم من أقوى اقتصادات العالم.

لقد خرجت المرأة من دورها التقليدي المنوط بها في ظروف استثنائية فأثبتت قدرة وصلابة على تولّي أعمال قد لا تناسب بنيتها الجسدية، فكان ذلك دافعاً لتغيير شكل المجتمع والمساهمة في استقراره.

لم تعد النساء يفضلن الاحتفاظ بدور الضحية مكتفين بتصوير أنفسهن على أنهن زوجات شهداء أو أمهات ثكالى، لقد وضعتهن الأقدار أمام مفترق طريق فكان عليهن الاختيار بين الاكتفاء بالسلبية والانكفاء على أنفسهن والانسحاب من الحياة بشكل تدريجي، أو التصدي لمثل تلك الظروف التي لم يعتدن عليها وبالتالي اكتشاف أنفسهن وإعادة خلقها.

زاد في سوريا مؤخراً ـــــ بحسب تصريحات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة للنظام السوري ــــــ عدد النساء العاملات بشكل ملحوظ، وأصبحت نسبة النساء العاملات سبع نساء إلى رجل واحد في سوق العمل بسبب الإقبال على الهجرة خارج البلاد والتجنيد الإجباري من ناحية وبسبب الخسارات البشرية في المعارك والمعتقلات من ناحية أخرى.

غياب المعيل أو انخفاض دخل رب الأسرة والعجز في سد الاحتياجات اليومية، كانت دوافع أساسية للبدء بقبول انخراط المرأة في العمل، لكن تلك المبررات لم تكن كافية لتغيير ثقافة مجتمع كامل ما زال أرباب العمل فيه يميلون إلى تشغيل النساء فيه لأنهن أقل أجراً مستغلين اضطرارهن للعمل في ظروف غير طبيعية.

سجل المجتمع السوري في المرحلة الأخيرة عمل النساء في ميادين غير معتادة، ذلك أن العجز وشحّ فرص العمل قد أجبرهن على العمل في المطاعم والمقاهي وقيادة المركبات والسيارات الخاصة بنقل المواطنين، لكن ذلك لم يُقابَل في المجتمع برحابة صدر وترحيب، بل كان محفوفاً بالاستغراب والرفض بسبب كسر الصورة النمطية التي عرفها المجتمع عن النساء.

لا يعد وجود النساء في سوق العمل السورية أمراً جديداً، لكن أعداد النساء المتزايدة شكلت فرقاً حقيقياً كشف ضعف الإطار القانوني المنظم للعمل والفجوة الاجتماعية التي عجزت عن اللحاق بالسبق اللاتي حققته النساء السوريات.

لقد كان عدد النساء العاملات فيما مضى قليلاً للغاية وكن يعانين في بيئة عمل من دون ضوابط أو قوانين ناظمة، ما يجعل المرأة عرضة للانتهاكات والتجاوزات المادية والجسدية والمعنوية، في مجتمعات ما زالت تنظر إلى عملها على أنه إهانة.

وعلى الرغم من المحاولات الخجولة لإصدار تشريعات تنظم عمل النساء وتضمن حقوقهن، إلا أنها لم تكن كافية من قبل، ومن البديهي أن لا تكون كافية في هذه المرحلة المتسمة بالفوضى الأمنية وسيطرة المجموعات المسلحة غير الرسمية على الشارع السوري.

لطالما كان هو ذلك الحال في سوريا التي يُعرف عنها الكثافة في سن القوانين والتشريعات غير أنها تبقى مسنونة مع وقف التنفيذ، في بلاد لا يحكمها القانون وإنما تخضع لسلطة الأجهزة الأمنية حيث باستطاعة ذوي النفوذ تجاوز القانون والقفز من فوقه ببساطة لا متناهية.

إن انخراط النساء في العمل والبناء في فترة ما بعد الحروب وإعادة صياغة هوية جديدة لهن لم يكن من صالح النساء فحسب، بل كان عاملاً هاماً في كشف الوجه الآخر للمجتمعات الهشة التي تفتقر لبيئة آمنة اجتماعياً وتشريعياً بحيث تناسب العنصر الجديد القادم بقوة في سوق العمل، ما حدا بالمجتمعات التي تسعى إلى التطور أن تعمل على اللحاق تشريعياً واجتماعياً بالتقدم الذي حققته النسوة فكان ذلك لبنة لصياغة قوانين جديدة وتهيئة المجتمع بقوانين تضمن المساواة في الحقوق والواجبات.

الأصعب بالنسبة إليهن يبقى هو حالة النكران التي تواجههن بها المجتمعات التقليدية بتقزيم مجهودهن وإنكار ما تحملنه من جراء الحروب والنتائج المترتبة عليها

لم تتخلّ النساء عن دورهن الفطري في رعاية البيت والأسرة في المجتمعات التي تعاني من نزاعات مستمرة، لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى الموازنة بين أمرين ضروريين، فأصبحن مقاتلات وأمهات وقائدات وعاملات في المجال الإنساني والطبي أو معتقلات لأسباب سياسية.

لا شك في أن النساء يعملن في ظروف صعبة ويتحملن مسؤولية الرعاية الأسرية والعمل للإنفاق على المنزل وتحمل ظروف عمل صعبة، لكن الأصعب بالنسبة إليهن يبقى هو حالة النكران التي تواجههن بها المجتمعات التقليدية بتقزيم مجهودهن وإنكار ما تحملنه من جراء الحروب والنتائج المترتبة عليها.

ليست النساء مسؤولات عن تجميع شمل عائلاتهن وتأمين ضمان استقرارهم فحسب، لقد أثبتن أنهن قادرات على لم شمل المجتمعات وتضميد جراحها والتمهيد لإعادة خلقها وتحسين شروط الحياة فيها، غير أن التحدي الأكبر الذي يقف في مواجهة التجربة النسائية الجديدة في العمل هو رياح الركود الاقتصادي التي بدأت تعصف في بلدان العالم وتترك أثرها الأكبر على البلاد التي تعاني تحت وطأة الحرب وحكومات الاستبداد.