نزار قباني والالتباس النسواني

2020.04.28 | 00:23 دمشق

baleeg.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحلّ بعد يومين الذكرى الثانية والعشرون لرحيل نزار قباني، ومثلما كان نزارُ مثيراً للجدل في حياته فهو ما زال كذلك بعد رحيله. إنه الشاعر الذي نقل الشعر من الصالونات الأدبية إلى الأزقّة الشعبية، وشاعت كلماته على ألسنة الجميع، فتسمعها من المحلّل السياسي والمعلّق الرياضي وسائق الحافلة.

ثمة ثلاث تيارات أيديولوجية حاربت نزاراً في حياته وبخَسَتْه حقّه بعد موته، الأول يمثّله الإسلاميّون المتشدّدون الذين رأوا في شعره ما يدعو إلى التحرُّر من القيود الاجتماعية الدينية، ويدفع إلى "الفجور"، بدءاً من الشيخ الطنطاوي الذي استقبل الديوان الأول لنزار بمقالٍ لاذعٍ هازئٍ، وانتهاءً بمَن ينالونه بالسوء وهو في قبره. التيار الثاني هم القوميُّون العرب الذين اتّهموا نزاراً بالشُّعُوبيّة لما في شِعره من هجاءٍ للعروبة وأحوال العرب. التيار الثالث هم اليساريون المؤدلجون الذين صنَّفوا نزاراً شاعراً برجوازياً بعيداً عن هموم الناس، يكتب عن مواضيع تافهة، بينما ينبغي للشعر -في نظرهم- أن يتناول قضايا الجماهير والعمّال والفلاحين، أو يهجو الإمبريالية على الأقلّ.

لكن موضوعنا هو: هل كان نزار شاعرَ المرأة أم شاعراً ذكورياً تقليدياً؟

أعتقد أنه لكي نفهم الصُّوَر المختلفة والمتناقضة للمرأة في شعر نزار، ينبغي أن نقف عند عاملين نفسيّين ومكوّنين ثقافيين ساهمت جميعها في تشكيل رؤيته للعالم وللمرأة. العامل النفسي الأول هو انتحار أخته الكبرى وصال حينما أراد أهلُها تزويجها من رجُل لا تحبّه، وقد كان نزار في الخامسة عشرة فتركت تلك الحادثة أثراً عميقاً في شخصيته، يقول "صورةُ أختي وهي تموتُ من أجل الحب محفورةٌ في لحمي". العامل النفسي الثاني هو علاقته مع بلقيس التي كتب عنها أحلى قصائده، ووصل شعره فيها إلى مقامٍ لم يصله من قبل. لكنّ بلقيس قُتلتْ عام 1982، مما ترك جرحاً عميقاً في قلبه، فأصيب بحالٍ من اليأس مع تقدمه في العمر، ترافقَ مع إعلائه صورة المرأة لتصبح رمزاً جمالياً كونياً يشمل كلَّ ما في الوجود من جماليّات. أما المكوّنان الثقافيّان فهما الشعر العربي الذي حفظه نزار منذ طفولته، بما فيه من صورة تقليدية للشاعر الفارس المغوار الفحل الذكوري، المفتخر بشجاعته وفصاحته ومغامراته مع النساء. والمكون الثاني هو التجربة الأوروبية خلال عمله في السفارة السورية في لندن 1952 ثمّ مدريد 1962، ففي تلك المرحلة تعرّف نزار على مجتمع جديد بقيَم مختلفة، وعلى نساء يختلفن بسلوكهنّ وحقوقهنّ وحرياتهن عما عرفه من قبل، وهناك تغيّرتْ نظرته إلى المرأة.

أميّـز ثلاثة مراحل غير منفصلة تغيّرتْ فيها صورة المرأة في شعره: المرحلة الأولى هي مرحلة الشباب التي نستدلّ عليها بديوانه الأول "قالت ليَ السمراء" الذي أصدره في الواحدة والعشرين مُبشّراً بولادة شاعر كبير، ويقول عنه في لقاء على شاشة "MBC": "أنا في العشرين ماذا كان يُطلب مني حقيقةً؟ كنت حامل كاميرا وقاعد عم صور هالستّات.. الشقراء والسمراء..". وبالفعل يمتلئ الديوان بالتصوير الفوتوغرافي والانطباعي لنساء يعشن في الحياة الواقعية، في الشارع والمقهى والجامعة لا في خيال الشاعر فحسب، مثل: "هي من فنجانها شاربةٌ/ وأنا أشربُ من أجفانها". وبالرغم من طغيان صورة الشاعر الفارس المعشوق من النساء، فإن الديوان يدلّ على وعيٍ مبكّر عند نزار، ففي قصيدة "البغي" يتحدث عن معاناة النساء اللواتي يعملن كبائعات هوى، ويهجو نفاق المجتمع وقيَمه المزدوجة، يقول: "وسريرٌ واحدٌ ضمَّهما/ تسقطُ البنتُ ويُحمَـى الرجُـلُ".

بالرغم من استمرار الصورة التقليدية للشاعر الفارس الفحل في مختلف مراحل تجربة نزار، فإن هنالك تحولاً مهماً طرأ بعد التجربة الإسبانية، ففي ديوان "الرسم بالكلمات" (1966)، لطالما أُعجبَ الشبّانُ بأبياتٍ حفظوها غيباً، لأنها وافقتْ ما في دواخلهم من رغبات، حالمين بتحقيق ما جاء فيها فعلياً أو حتى شعرياً، وتحديداً البيت الشهير: "فصّلتُ من جلْد النساء عباءةً/ وبنيتُ أهراماً من الحَلَماتِ". ويرى الناقد الغذّامي أن هذه الفحوليّة ليست من إنتاج نزار، بقدْر ما هي موروثٌ ثقافي استلهمه وانساقَ وراءه. ويضيفُ أنّ القرّاء مسؤولون مسؤولية مباشرة عن صناعة "الطاغية الشعري".

لكنني أرى تأويلاً مختلفاً لتلك القصيدة، وأرى أنّ مقصد نزار هو عكس المعنى الظاهري الذي حفظتْه الأجيال وفرحتْ به، فهو يبدأ بـ "كلُّ العصور أنا بها"، لندرك أنه لا يتحدث عن ذاته بل عن نسقٍ معيّن، وبعدما قام هذا النسقُ بمغامراته الفحولية وفصّل عباءةً وبنى أهراماً... حالتْ به الأمور إلى "اليومَ أجلسُ فوق سطح سفينتي/ كاللّصّ أبحثُ عن طريق نجاةِ". ثم يوضّح أن الجنس الذي كان ملجأً له لم يُنهِ أحزانه ولا أزماته، والحبُّ صار متشابهاً كتشابه الأوراق في الغابات، ليصل إلى أنّ السبيل الوحيد بعد انسداد جميع الدروب أمام تحقيق ذاته هو الرسمُ بالكلمات، أي الإبداع الشعري. وهنا أرى أن نزاراً قد لبس قناعَ النموذج الذكوري الشهرياريّ لكي يُعرّيه من الداخل، ويكشف عن أزمته وتفاهته، فقد أوغلَ في الجنس والعلاقات حتى فقدَ إحساسه ومشاعره وإنسانيّته، وصار بحاجة إلى تأهيل جديد وأنْسَنَة جديدة. ومن هذه القصيدة بدأ نزار بقتل شهريار.

واستمراراً لهذه النقلة، جاء ديوان "يوميّات امرأة لا مبالية" (1968) الذي أعتقد أنه الديوان النِّسْوي الأول في الشعر العربي. كان مفهومُ السلطة عند نزار أوسعَ من مفهوم السلطة عند المثقف العربي التقليدي، فهو يبدأ بتفكيك علاقات الاستبداد من الخلية الأصغر في المجتمع، من الأُسرة التي تقوم على بنيانٍ ذكوري سلطوي هرمي، يبدأ من الأب ثم الأخ الأكبر ثم بقية الذكور قبل أنْ يصل إلى الأم وسائر الإناث.

"نهارَ أتيتُ للدُّنيا وجدتُ قرارَ إعدامي

ولم أرَ بابَ محكمتي ولم أرَ وجهَ حكّامي"

هكذا استهلّ يومياتِ تلك المرأة اللامبالية، وأراد لهذا الديوان أن يصل إلى نساء العالم العربي جميعهنّ، ولذلك بسَّطَ لغته، فوقعَ في فخّ التبسيطيّة، أي مخاطبة الجمهور "على قدّ عقله". وبالرغم مما يُشاع عن نِسْوية نزار بأنها سطحية وقُشُورية، فإنني أظنُّ أنّ خطاب الحركة النسوية الغربيّة في الستينيات لم يكن أكثر تطوراً من خطاب نزار. وبالطبع لا تقتصر نِسْوية نزار على هذا الديوان، فهنالك قصائد عدّة تناول فيها قضايا المرأة ومعاناتها بجرأةٍ غير مسبوقة، مثل قصيدتيّ "حُبلى" و "أوعية الصديد".

في المرحلة الثالثة من صور المرأة في شعر نزار، صارت المرأة تمتد في أرجاء الكون رمزاً جمالياً لكلّ ما هو لطيف وجميل وخصب وحيّ، رمزاً يواجه به العالمَ وما فيه من قبح وظلم وشرور. كمثال على ذلك ديوان "لا غالب إلا الحبّ" وقصيدة "أحبّك أحبّك وهذا توقيعي" التي ترقى المرأةُ فيها مكانة صوفية، وكأنها تتجلّى في العالم ويتجلى العالمُ فيها، فيصفها بأنها "تحتلُّ بعينيها أجزاءَ الوقت" و "تكسرُ حين تمرُّ جدار الصوت"، ويختتمُ بـشكر ربّه على هذه النعمة: "يا أغلى لؤلؤةٍ بيديّْ / آهٍ كم ربّي أعطاني".