نحو أي ماض ننحدر؟

2022.01.05 | 06:58 دمشق

unnamed_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في قرية تابعة لإحدى محافظات مصر أقدمت فتاة في السادسة عشرة من عمرها على الانتحار بعد أن ركّب بعض شباب القرية صوراً مخلّة لها عبر برنامج الفوتوشوب، ثم بدؤوا بابتزازها وتهديدها بنشر الصور في حال لم ترضخ لتهديدهم.
الفتاة التي خافت أن تخبر أسرتها بالحادثة لم تستطع تنفيذ طلبات مهدّديها الذين قاموا فوراً بنشر الصور على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، لتصبح الفتاة حديث القرية وتصل الصور إلى عائلتها التي لم تصدّق رواية ابنتها، فلم يكن أمام تلك الفتاة سوى الانتحار بعد أن تركت رسالة محزنة إلى والدتها تؤكد لها فيها أنها بريئة وأن الصور لا تخصها، ماتت الصبية ولم تتمكن عائلتها من إنقاذها، العائلة التي عبرت عن ندمها على عدم تصديق  ابنتها، ولكن بعد فوات الأوان.

مخيفة هذه الحادثة في دلالاتها، وتكشف شيئا من العلل والأمراض المهولة التي تنخر في جسد المجتمعات العربية، فعائلة الفتاة من الطبقة المتوسطة العليا، كما تناقلت المواقع التي نشرت الحادثة، وهو ما جعل المبتزون يختارون الفتاة إياها، امتلاك عائلتها للمال، بيد أن المرتبة الاجتماعية هذه ليست أصيلة، إذ لم يترافق امتلاك المال مع وعي اجتماعي منتج لعلاقة أسرية صحية، ولم يترافق مع قيم تنويرية عادة ما كانت تملكها الطبقة الوسطى (الطبقة الوسطى في المجتمعات المعافاة هي الطبقة التي تعود عليها معظم فوائد التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي هي الحامل لأي عملية تغيير في المجتمع)، فأسرة بسنت(الفتاة المنتحرة)، لم تستطع أن تشكل حاضنة حامية لها، لم تجرؤ بسنت على إخبار عائلتها بما حدث لأنها غالبا كانت تخشى من ردة فعلهم السلبية، وهو ما حدث فعلا عند نشر الصور! استياء الأهل من نشر الصور جاء بسبب الخشية من الفضيحة المجتمعية، من الخشية من اعتبار ابنتهم (سيئة السمعة) وخارجة عن (القطيع)، وهذا يدل على فقدانهم الثقة بها، وهو أحد أسوأ ما يمكن أن يحدث للمراهق، وأكثر المراهقة، أن تفقد ثقة محيطها الصغير بها، يعني أنها متروكة في العراء، وحيدة ومنبوذة، بدل أن تكون محميّة ومحتضنة، فالعائلة التي تتبع الذهنية القبلية المجتمعية تحاصر أبناءها وخاصة البنات منهم، بأسوأ مفرزات العقل القبلي، تتحمل الابنة كلَّ مساوئ ومخاطر انتماء العائلة إلى القبيلة التي تفرض شروطها على الجميع بأساليب طقوسية لا تتوقف عن طلب مزيد من الضحايا في مجتمعاتنا العربية المبتلاة بالاستبداد السياسي الذي فرض استبدادا اجتماعيا قوامه بطريركية سلطوية ذكورية سادت وتسلّطت في شروط  اقتصادية وثقافية واجتماعية رسّخَها الاستبداد منذ عقود متحالفاً مع مؤسسة دينية ذكورية في أصل تأسيسها، وتلقتها الطبقة الوسطى بوصفها الحامل لأي عملية تغيير، ورغم أن المجتمع بشكل عام هو ضحية تلك الشروط إلا أن التصويب يتجه دائما نحو النساء كونهنّ الهدف الأضعف من باقي الأهداف، وكون استباحتهن لا تعاقب عليها لا قوانين القبيلة ولا قوانين الدولة.

قضية بسنت الشابة المصرية الضحية ليست سوى واحدة من قضايا مشابهة تنقلها كل يوم، على امتداد عالمنا العربي، وسائل الإعلام والسوشل ميديا، وكلها تتعلق بارتكابات عنفية وجرمية مجتمعية وقضايا قانونية ملفقة ضد النساء والشابات منهن تحديدا

في دلالة أخرى للحادثة، تظهر هنا طريقة تعامل شرائح كبيرة ومتعددة من مجتمعاتنا مع التقنيات الحديثة، فبدلا من أن نستفيد من هذه الاختراعات التي لا يد لنا فيها، بأن ننمّي مداركنا ونتطلع من خلالها إلى مَناح جديدة لا نعرفها، ونكتشف ما نجهله عن ثقافات العالم وعن مدى تقدمه وتطوره، ونقارن حالنا بحاله، ونحلل أسباب الاختلاف، وأسباب المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه، ونبني لأنفسنا شخصيات متوازنة يمكنها أن تعيد ترتيب مجتمعاتنا وتساعد في عملية تحويلها إلى مجتمعات متحضرة وحديثة، فإن معظم استخدامنا لهذه التقنيات هو مساهمة طوعية منا في ترسيخ أثر ذهنية الاستبداد الجمعي، ولتعميق ما تفعله هذه الذهنية التي همّشت التعليم وهمّشت الثقافة وهمّشت العلم وهمّشت العقل، وأعلَت من سلطة الغرائز ومن سلطة التنمّر والعنصرية وخطاب الكراهية ومن سلطة القطيعة المجتمعية، وعززت في تجريف المجتمعات من مدنيّتها وحيويّتها لصالح الركود والتسليم والرضا بواقع الحال، وسيّدت سلطة الرداءة والقباحة والركاكة بدلا من الانتصار لقيمة الجمال والفن والثقافة والعلم، فأنتجت أجيالا من الفشلة الذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام هذه التقنيات المتاحة بلا رقيب ولا حسيب وبلا قيم أصيلة وبمهارات مكتسبة بالتراكم، لكنها مهارات مهدورة وغير موجهة، و تستخدم لصالح كل الإساءة المسنودة إلى إعلام رديء ومتهافت وإلى فن لم يسبق أن وصل إلى هذا المستوى من الانحطاط ، وإلى نخب بديلة عدّتها الوحيدة الشهرة والانتشار عبر وسائل الإعلام والاتصالات التقنية الحديثة، وتروّج لكل ما يغيّب العقل، الغائب أصلا بفعل التحولات التي حصلت لمجتمعاتنا والانهيارات الأخلاقية  والإنسانية المصاحِبة لها، وتدمير الطبقة الوسطى بالكامل، لينقسم المجتمع بين أقلّية قليلة تملك معظم الثروات وأكثرية تعيش تحت خط الفقر بكل ما ينتجه هذا الفارق من كوارث مهولة فضحتها التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي.

والحال فإن قضية بسنت الشابة المصرية الضحية ليست سوى واحدة من قضايا مشابهة تنقلها كل يوم، على امتداد عالمنا العربي، وسائل الإعلام والسوشل ميديا، وكلها تتعلق بارتكابات عنفية وجرمية مجتمعية وقضايا قانونية ملفقة ضد النساء والشابات منهن تحديدا، والذرائع متوافرة دائما: النشوز والتمرد على التقاليد القبلية والذهنية الذكورية السلطوية، وهو، في نظر القبيلة / المجتمع، ما يستحق العقاب حتى القتل أو الدفع للانتحار، ليست بسنت الأولى ولن تكون الأخيرة حتما، فمجتمعاتنا تزيد في سرعة انحدارها بشكل يدعو للدهشة فعلا ويثير الأسئلة حول المستقبل القريب: غدا إلى أي ماض سوف نصل؟!

كلمات مفتاحية