عاد الرئيس ميقاتي إلى لبنان بعد لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مهللا لاستقباله في المملكة ومحاولا استثمارها في السياسة اللبنانية وفي صراعه مع جبران باسيل. تهليل الميقاتي لم يكن لخلاصة ما دار في لقاءاته في المملكة ولكنه كان احتفالا بمجرد الاستقبال، فالأجوبة التي تلقاها الميقاتي في زيارته لم تأت بالجديد ولكنها لخصت الواقع السياسي اللبناني وملفه الأبرز هذه الأيام وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
التقى الرئيس ميقاتي ابن سلمان سائلا عن توجهات المملكة في انتخابات الرئاسة اللبنانية، وإن كانت تملك مرشحا مفضلا أو اسما محددا فلم تختلف الإجابة عما اعتاد المسؤولون اللبنانيون سماعه من ممثلي المملكة وغيرها من الدول وهو أن المملكة لا تتدخل في التسمية الرئاسية، وأنه شأن داخلي لبناني مع التشديد على المطالب السعودية المحددة من لبنان.
في الحقيقة عاد الرئيس ميقاتي من الرياض بكفي حنين على صعيد إحداث تطور في الملفات اللبنانية العالقة، ولكن المشهد نفسه يلخص لنا دينامية عمل الانتخابات الرئاسية اللبنانية.
الدينامية الداخلية
الشعارات الكبيرة التي دائما ما يختبئ خلفها السياسيون اللبنانيون من قبيل عدم القدرة على التحرك بالداخل بانتظار الاتفاق النووي، أو فتح صفحة جديدة بين السعودية وإيران لم تكن لتوجد لو لم يرد المسؤولون أنفسهم ذلك وحاولوا أخذ الأمور على عاتقهم.
إن إيمان القوى السياسية اللبنانية بأنهم لا يستطيعون القيام بأي شيء دفعهم جميعا لرفع سقوفهم السياسية إلى أقصى مدى ممكن، غير مكترثين بنتائج ذلك على الاستحقاق الرئاسي
المسلّم به هو أن المجلس النيابي اللبناني وهو الهيئة الرئاسية الناخبة موزعة على كتل صغيرة، وحتى يتم انتخاب رئيس يجب أن يتحقق له الثلثان حضورا وهو ما يعني إلزامية وجود اتفاق وتسوية لوصول رئيس. المشكلة هي أن الكتل النيابية مستسلمة من محاولة إنتاج هذه التسوية داخليا، وبالتالي تنتظر تسوية خارجية. إن فرق التسوية الخارجية عن التسوية الداخلية هو كون الخارجية تراعي مصلحة الدولة الإقليمية والكبرى أكثر مما تراعي مصلحة لبنان الذي سيكون على الهامش فيها، وهي التي ستتعدى حدود لبنان والتي يجب على اللبنانيين انتظارها طويلا بحسب سلم أولويات الخارج عكس التسوية الداخلية التي تأخذ بعين الاعتبار الداخل أكثر من الخارج وتبت سريعا إن توفرت الإرادة.
إن إيمان القوى السياسية اللبنانية بأنهم لا يستطيعون القيام بأي شيء دفعهم جميعا لرفع سقوفهم السياسية إلى أقصى مدى ممكن، غير مكترثين بنتائج ذلك على الاستحقاق الرئاسي نفسه وما يمكن أن يسببه التأخر في إنجازه من خلل أمني واقتتال معيشي داخلي وسحق إضافي لساكني لبنان!
يتصرف المرشح الرئاسي سليمان فرنجية ومن معه على أنه الرئيس، ويضع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل فيتو على كل المرشحين عداه ولو طرح أسماء بالشكل، أما أعضاء حزب الله وحلفاؤهم فمتمسكون بالتعطيل حتى إشعار آخر وينتظرون إمكانية اقتناص الرئاسة لفرنجية في وقت تعيش القوات اللبنانية المثالية، ويتخبط نواب التغيير وينتظر الاشتراكي والمستقلون التسوية.
هذه الحالة الداخلية التي تفتقد الحيوية والإيمان بالإنجاز هي التي تدفع السياسيين جميعهم للتركيز بشكل كبير على محاولات تلمس المواقف الخارجية، وتدفع برئيس الحكومة اللبنانية (رغم معرفته المسبقة بالإجابة) للسؤال عن المرشح المفضل للمملكة لكون الكتل جميعها مستسلمة داخليا ومترقبة للتعليمات الخارجية.
الدينامية الخارجية
أما إذا نظرنا للمعطى الخارجي وتفاعله مع الاستحقاق الرئاسي اللبناني فقد سعت العديد من القوى اللبنانية لمعرفة رأي اللاعب الأكبر وهو الأمريكي لتجده قليل الاهتمام بالملف لكون أولوياته في مكان آخر من الحرب الروسية الأوكرانية والصين وغيرها من الملفات. أما الملف اللبناني الأهم فهو الترسيم البحري وأمن إسرائيل وقد ضمنا في وقت سابق.
أما اللاعب الفرنسي فهو يسعى بجدية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي والذي تجلى في النهاية بالتوسط مع المملكة العربية السعودية لاستقبال ميقاتي. لكن السؤال الذي يطرح هو من تدعم فرنسا فحينا نسمع بفرنجية وأحيانا بعون وغيره؟
الحقيقة أنه حتى بالنسبة لفرنسا فهي لا تدعم مرشحا بعينه فأولويتها الأولى بعد أن تلقت صفعة المطالبة السابقة بحكومة غير سياسية تحولت نحو هدف انتظام المؤسسات وهو ما تسعى إليه لتظهر رعاية الحلول في لبنان والساهرة على تعافيه وهي تمتلك مصالح مع كل الأطراف الناشطة في لبنان من المحور الأميركي للإيراني.
أما العرب فلاعبون ذوو أهمية في معادلة الرئاسة اللبنانية. الأولى قطر فهي دخلت على خط الملف الرئاسي بقوة من باب إحداث التوافق ومساعدة لبنان دون التدخل في العمق في تحديد المرشح الأنسب بل تلعب على تذليل عقبات الانتخابات من خلال التواصل في الداخل والخارج، إلا أن المعلومات تؤكد بأنها لا تخرج بتاتا عن سقف المملكة العربية السعودية التي تعتبر بالنسبة للجميع مفتاح الفرج الاقتصادي للبنان في وقت لا يستطيع أحد في ظل الأزمات الدولية ضخ عملة صعبة في الاقتصاد اللبناني إلا الخليج وبمعية المملكة. إذاً فأي اتفاق يستثني السعودية يحكم عليه بإفشال لبنان وإعدامه ماليا. في العمق، فإن موقف المملكة كما موقف غالبية القوى الدولية يلخص في إجاباتها لميقاتي فهي لا تتعاطى الأسماء ولكنها تضع خطوطها الحمراء وما يعنيها هو رد الهجوم المستمر عليها من قبل حزب الله ومحوره في عدة دول وفي إغراقها بالمخدرات وفي مهاجمة الطائف في لبنان.
يبدو أن ساسة لبنان قد ألفوا التعامل "الأسدي" معهم ولم يستوعبوا إمكانية العيش بدونه فيهرعون عند كل منعطف لمحاولة استعادة الأسلوب بأيديهم ولو مع لاعبين مختلفين!
في المحصلة، فإن القوى الخارجية ليست ضاغطة تجاه اسم محدد، على العكس فهي منفتحة على أسماء كثيرة ولكن تمتلك خطوطها الحمراء واجتراح الأسماء والحلول يمكن أن يكون باتفاق "لبناني-لبناني" لو عزمت القوى السياسية على ذلك. لا يمكن بتاتا تغييب المعطى الداخلي عن انتخابات رئاسة الجمهورية فهو المعطى الأهم ولكن المشكلة أن الكتل النيابية وبأدائها تضرب قيمتها ووزنها في العملية وترمي الكرة في ملعب الخارج وهو ما يؤخر إنجاز الاستحقاق ويدخل فيه عوامل إضافية في وقت يحترم الخارج نفسه ويرفض طرح أسماء بعينها.
يبدو أن ساسة لبنان قد ألفوا التعامل "الأسدي" معهم ولم يستوعبوا إمكانية العيش بدونه فيهرعون عند كل منعطف لمحاولة استعادة الأسلوب بأيديهم ولو مع لاعبين مختلفين!