مطارات "الممانعة" في دمشق وبيروت 

2018.09.30 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إسرائيل تكشف بالصور عن مواقع مفترضة لصواريخ ومخازن أسلحة "حزب الله"، في محيط مطار بيروت الدولي. إسرائيل وأميركا تتهم هذا الحزب باستخدام المطار نفسه لنقل الأسلحة والأموال والمقاتلين ما بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. والمفارق، وهذا يتزامن مع سلسلة من فضائح تقنية وأمنية وتنظيمية في إدارة المطار، تدل على توسع الاهتراء في المرافق اللبنانية العامة وفسادها. 

على كل حال، يمكن القول أن الاتهامات الإسرائيلية التي تهدد لبنان ومطاره الدولي الوحيد، لا تنفصل عن سياق العمل الإسرائيلي المتواصل في استهداف المطارات السورية، ومن بينها أخيراً مطار دمشق الدولي (المدني!) وحظائره. ثمة لعبة القط والفأر بين إيران وإسرائيل بنقل الأسلحة من مطارات إيران إلى مطار بيروت عبر المطارات السورية، فضلاً عن المسارب البرية ومسالكها الخفية عبر الحدود من الصحراء العراقية – السورية إلى سهل البقاع وهضاب الجنوب اللبناني. 

وسيرة مطاراتنا وطائراتنا في تاريخ "الممانعة والمقاومة"، بنسخها المتتالية "العروبية" و"الفلسطينية" و"الإسلامية"، يجوز نعتها بالسوداء والمقيتة. وهي التي حولت تجربة أي شخص من بلادنا في أي مطار دولي إلى كابوس من الشبهة والمهانة والتمييز. 

ومن العلامات الكبرى على صلتنا بعوالم النقل الجوي والسفر والمطارات، نستذكر فصلاً تاريخياً كان لا شك تأسيسياً في "ثقافة الممانعة" وصلتها بالعالم. ففي مطلع أيلول 1970، عمدت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" إلى تحويل مهبط طائرات صحراوي، في منطقة الزرقاء بالأردن، "مطاراً ثورياً"، وأجبرت أربع طائرات مدنية، كانت قد اختطفتها من عدة مطارات دولية، على الهبوط في هذا المطار المرتجل. وبعد ستة أيام، فجّر رجال "الجبهة الشعبية" تلك الطائرات على نحو مشهدي ومصوَّر.

المجتمع الأردني نفسه أصبح تحت خطر الانقسام الأهلي بين الكتلتين "الفلسطينية" و"الشرق أردنية"

كانت النتيجة الفورية لهذا العمل أن الدولة الأردنية باتت مهددة بوجودها وسيادتها، بل إن المجتمع الأردني نفسه أصبح تحت خطر الانقسام الأهلي بين الكتلتين "الفلسطينية" و"الشرق أردنية"، وبدا أن التصدع هذا مصحوباً بفوضى سلاح "منظمة التحرير الفلسطينية" سيؤدي إلى حرب أهلية مدمرة.. هي بالتأكيد لن تحرر فلسطين ولن تزعج إسرائيل.

كان ثمن الحفاظ على الأردن معركة قاسية ودامية بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية (ما يُعرف بـ"أيلول الأسود")، انتهت بطرد "منظمة التحرير" ومسلحيها باتجاه لبنان.

وسبق هذا الحدث الذي هز العالم، أن نفذت "الجبهة الشعبية" عملية هجوم على طائرة مدنية إسرائيلية في مطار أثينا، في أيلول 1968، ما أدى إلى تنفيذ الكوماندوس الإسرائيلي غارة انتقامية على مطار بيروت بعد أيام قليلة، أفضت إلى تدمير أسطول الطيران المدني اللبناني. ونتج عنها اشتداد الانقسام الأهلي والطائفي وتصدع سيادة الدولة اللبنانية وبداية الصدامات بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية المسلحة، التي ستمهد للحروب الأهلية والإقليمية المتناسلة في لبنان. 

على الأغلب، وبغض النظر عن الحصيلة البائسة لرصيد "تحرير فلسطين"، أدت العمليات الفلسطينية الكثيرة في خطف الطائرات والهجوم على المطارات، منذ أواسط الستينات وحتى أواخر السبعينات، إلى تغير جوهري في عالم السفر عبر المطارات، وليس افتراءً القول أنه من رحم "الإرهاب الثوري الفلسطيني" سيولد منذ الثمانيات عهدا جديدا من "الإرهاب الأصولي"، وصلت ذروته بعد عقدين في أحداث 11 أيلول 2001.

فقد استثمر الذين خرجوا من حضن "الجبهة الشعبية" و"حركة فتح" إلى أحضان "الثورة الإسلامية في إيران"، على مثال القائد العسكري لـ"حزب الله" عماد مغنية، تجربتهم الفلسطينية، وطوروا مهاراتهم وأساليبهم في أعمال خطف الطائرات والشاحنات المفخخة وكمائن الاغتيال وعمليات الخطف.

وتحولت "ثقافة الممانعة" إلى طور جديد على مثال تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، الذي ابتكر وافتتح عهد التفجيرات الانتحارية بسيارات أو شاحنات مفخخة، التي ستتكرر ببراعة في عام 1983 ضد السفارة الأميركية، ومقريّ المارينز الأميركي والمظليين الفرنسيين، قبل أن تتعمم في ربوع مدننا بلا استثناء، ومدن العالم من بوينس أيريس إلى تنزانيا.. كوباء لا علاج له.

كما أن عمليات خطف الرعايا الأجانب وتحويلهم إلى رهائن لسنوات مديدة أحياناً، أو إعدامهم في جحور سرية، والتفاوض على جثثهم أو على إطلاق سراح الأحياء منهم، بصفقات كانت أبرزها ما كشفته فضيحة "إيران غيت"، ستكون تطويراً ملهماً للكثير من المنظمات "الجهادية" كتنظيم "القاعدة" أو "داعش" أو "شباب الصومال" ..إلخ.

ومن مخيلة وأضغاث أحلام "مطار الثورة" في الصحراء الأردنية، استلهمت المنظمات "الجهادية" الخمينية الهوى والهوية، في مطالع الثمانينات، سلسلة عملياتها خطفاً للطائرات من وإلى مطار بيروت، واستباحت مدرجاته وحظائره شحناً وتخزيناً وتهريباً، وتحول هذا المطار (والمدينة) حينها إلى أخطر بقعة في العالم. 

وسرعان ما استثمر حافظ الأسد وأجهزته، منذ منتصف الثمانينات بالشراكة مع "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" حال هذا المطار، ليكون منفذاً رئيسياً لشبكة تهريب ضخمة يضاف إلى الموانئ غير الشرعية من طرابلس إلى صور، في زمن ازدهار زراعة الأفيون وحشيشة الكيف في سهل البقاع بحراسة المخابرات السورية ورعايتها وتدبيرها، وما كانت تحصده من مليارات العملة الصعبة، التي ساعدت اقتصاد "سوريا الأسد" على الصمود في مرحلة "العزلة الدولية الخانقة" (1983- 1989). 

وإذ أذعنت منظومة "الممانعة" لواقع خروج لبنان من ظلمات الثمانينات وفوضاها القاتلة، وابتداء حقبة "إعادة الإعمار" وتمكين مشروع الدولة الوطنية من استعادة مؤسساتها، ومنح اللبنانيين حياة "طبيعية"، واستواء الحياة على شروط المجتمعات المتحضرة. فإن هذا الإذعان على ما يبدو كان مكروهاً وثقيل الوطأة على نفس اعتادت الاستباحة واحتراف الحروب الأبدية. ففي أيار 2008، وعندما أرادت الدولة اللبنانية معالجة الاختراق الأمني الخطير في المطار، افتعل "حزب الله" على مدى ثلاثة أيام "حرباً أهلية" مصغرة وخاطفة.

تحولت المطارات السورية العسكرية والمدنية بلا تمييز إلى مهابط ومرابض لعصابات "الممانعة" الأسدية والحرسية

السيرة الأفدح ابتدأت منذ العام 2012، حين تحولت المطارات السورية، العسكرية والمدنية بلا تمييز، إلى مهابط ومرابض لعصابات "الممانعة" الأسدية والحرسية، وإلى قواعد لشن الحرب بالبراميل المتفجرة والقذائف الكيماوية على المدن السورية، وإلى منافذ لإمدادات السلاح والميليشيات العراقية والأفغانية والإيرانية واللبنانية، أو لتهريب الأموال والأسلحة ما بين طهران وبغداد وبيروت. بمعنى آخر، لم تعد هذه مطارات الجيش السوري في الدفاع عن سماء سوريا ولا هي مطارات المدنيين السوريين وزوار سوريا. هي "مطارات ثورية" ممانعة ومارقة. وعلى منوال السوابق التاريخية، منح كل هذا إسرائيل (وغيرها) الذريعة والحجة لاستباحة المطارات السورية وضربها متى شاءت.

اليوم، يبدو أن زمن إذعان "الممانعة" لشروط السلم (البارد) في لبنان شارف على الانتهاء، بالتزامن مع الضغينة والعصبية اللتين يبثهما أنصار "حزب الله"، ورداً على اتهامات المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قائلين إنهم سيسمون "مطار رفيق الحريري الدولي": "مطار الشهيد البطل مصطفى بدر الدين" (العضو البارز في الحزب والمتهم بتنفيذ الاغتيال). وهم بذلك لا يجانبون الصواب كثيراً، إن صحت الادعاءات الإسرائيلية والأميركية بما يجري حول المطار وفيه.. بل وبغض النظر عن هذه الادعاءات، طالما أنه مرشح مجدداً ليكون مطاراً شبيهاً بما كان عليه من فوضى وفساد في الثمانينات. حينها حقاً لا يجوز أن يكون "مطار رفيق الحريري الدولي".