مسار سوتشي: المصالح مقابل الحرية

2019.02.21 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في بداية العام 2017، بدأت أولى اجتماعات آستانا بين الدول الثلاث الراعية (روسيا وتركيا وإيران) كدول ضامنة، والنظام والفصائل العسكرية المعارضة والمهزومة في ذلك الحين، وذلك إثر سقوط حلب الشرقية وعودتها لسيطرة النظام وداعميه الروس والإيرانيين، في كانون الأول 2016، وبعد عام تقريباً، ونتيجة فشل اجتماعات جنيف في التوصل إلى نتائج معقولة بسبب تعنت النظام وداعميه، وعدم ممارسة الولايات المتحدة أية ضغوط جدية بشأن الدفع بالعملية السياسية في سوريا؛ استغلت روسيا حالة الفراغ، فدعت إلى عقد اجتماع في سوتشي، بين الدول الثلاث المذكورة، وعلى الرغم من استياء الولايات المتحدة، عُقد الاجتماع على مستوى القمة في 22 تشرين الثاني 2017، ليشكل بديلاً روسياً إلى حد كبير عن اجتماعات جنيف، حيث أكد الرؤساء الثلاث على أهمية ما عُرف بمناطق خفض التصعيد، وهي المناطق التي قضمتها روسيا والنظام لاحقاً واحدة بعد الأخرى عدا إدلب، وعلى "سيادة" الجمهورية العربية السورية.

بعد سقوط الغوطة الشرقية في آذار 2018، وهو الحدث الثاني المهم والموجع للمعارضة العسكرية وللثورة السورية ككل، من بعد سقوط حلب الشرقية

عُقد الاجتماع الثالث في إيران، في أيلول 2018، بعد أن توضحت منذ ذلك الوقت الخريطة العسكرية للقوى المتصارعة على سوريا إلى حد ما

وترحيل المقاتلين ومن رفض من المدنيين البقاء تحت سيطرة النظام إلى الشمال السوري من جهة، ودخول الجيش التركي لعفرين في نفس الشهر؛ عُقد الاجتماع الثاني في أنقرة في الرابع من نيسان 2018، حيث تم التركيز في الاجتماع على الجانب الإنساني لأزمة اللاجئين، وتوفير ملاذات آمنة لهم.

عُقد الاجتماع الثالث في إيران، في أيلول 2018، بعد أن توضحت منذ ذلك الوقت الخريطة العسكرية للقوى المتصارعة على سوريا إلى حد ما، حيث سيطر النظام وداعموه على الجزء الأكبر من سوريا، وتركيا على الشمال والشمال الغربي، والولايات المتحدة على الشمال الشرقي من سوريا، وفي ذلك الاجتماع ركز روحاني، الرئيس الإيراني، على الوجود اللاشرعي للولايات المتحدة في سوريا، في تأكيد على احترام "السيادة" السورية، وشدد الرئيس أردوغان  على ضرورة عدم مهاجمة إدلب، وندد بدعم الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية، في إشارة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، أما الرئيس بوتين، فقد شدد على أن 90 في المئة من أراضي سوريا بات تحت سيطرة القوات الحكومية، عدا إدلب (حيث يجري الحديث عن سوريا "المفيدة"، عدا المناطق الشمالية والشمالية الشرقية الواقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية) وهي منطقة خفض تصعيد، وطالب بضرورة تشكيل اللجنة الدستورية تماشياً مع مسار السلام في آستانا وسوتشي.

أعاد إعلان طهران -بنقاطه الاثنتي عشرة- التأكيد على سلامة ووحدة سوريا، وأمن الدول المجاورة، وطالب جميع الأطراف المشتركة في الصراع بإلقاء سلاحها والبدء بالمفاوضات السياسية، وأكد أن السوريين وحدهم من يقرر مصيرهم، ودعوا إلى محاربة الإرهاب، وطالبوا المجتمع الدولي بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا، وبضرورة عودة اللاجئين، وشددوا على أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتقنا نحن الثلاثة.

الاجتماع الرابع، الذي عُقد الأسبوع الماضي، 14 شباط 2019، في سوتشي، جاء بعد مستجدات عدة أهمها: إعلان ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، وما سيخلقه من فراغ لابد من ملئه، وثانيها سيطرة هيئة تحرير الشام على معظم الريف الغربي لحلب ومحافظة إدلب (80-90 في المئة)، وثالثهما الدعوة لإعادة إحياء اتفاقية أضنة الموقعة بين سوريا (النظام) وتركيا عام 1998، عقب اجتماع القمة بين بوتين وأردوغان في كانون الثاني من هذا العام.

 بتأمل مسار اجتماعات سوتشي الأربعة حتى الآن خلال أقلّ من عامين، يمكننا أن نرى حالة التصارع والتوافق بين مصالح الدول الثلاث، وعلناً على الطاولة، أما سوريا فليست سوى الميدان الذي يجري فوقه وباسمه هذا التصارع، فمن جهة تستغل روسيا حالة البرود في العلاقات التركية الأميركية، وقلق الأتراك من سيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي على جزء من الحدود معها، لتفرض عليها التقارب وإعادة العلاقات مع النظام السوري، وهو الأمر الذي طرحه بوتين في اجتماعهما السابق، بضرورة إعادة إحياء اتفاقية أضنة، بحجة أنها تضفي شرعية على الوجود التركي في سوريا، ويصبح من حقها ملاحقة قوات الحزب الكردي المذكور ضمن أراضي سوريا، ولربما ما صرح به الرئيس أردوغان عن وجود اتصالات على مستويات دنيا، وخاصة بين أجهزة الاستخبارات، يشير إلى قبول تركي إلى حدٍ ما بإعادة تفعيل تلك المعاهدة.

القضية الأخرى التي فرضتها روسيا، بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية (بالمناسبة كل من هو ضد النظام السوري فهو إرهابي، حسب التعريف الروسي) هي القيام بعمليات عسكرية ضد هيئة تحرير الشام المصنفة كتنظيم إرهابي، خاصة بعد تأخر تنفيذ الاتفاق المتعلق بفتح الممرات الدولية ما بين حلب – دمشق، وحلب – اللاذقية، بما يقتضيه من إبعاد الهيئة والفصائل الأخرى عن أهم المدن والبلدات الكبرى الواقعة على جانبي الطرق المذكورة. 

أما إيران، فدفاعاً عن مواقفها ومصالحها في فتح الممر البري من طهران لدمشق مروراً ببغداد، فهي تصرُّ دائماً على ضرورة انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وتعتبرها تهديداً لوجودها ولممرها المنشود، وهو الأمر الذي ينوي ترمب تحقيقه رغم ادعاءاته بمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة، ودعواته المتكررة إلى تشكيل حلف عربي أميركي إسرائيلي لمحاربة إيران! ومن جهة أخرى تطالب بعودة قوات النظام إلى المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية.

لم يكن نصيب السوريين من تلك الاجتماعات سوى محاولة تشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور جديد لسوريا "المستقبل"، ولم يتم الاتفاق على أي

إن غياب السوريين وتغييبهم عن قضيتهم، وحصرها بيد الدول الإقليمية والدولية، حوّل بالكامل قضية السوريين وثورتهم التي طالبت بالكرامة والحرية، إلى قضية صراع مصالح بين الدول ذاتها

من ملامحها الجديدة، وبالتالي ستكون نسخة جديدة من نظام الإبادة والقتل، مع بعض التحسينات التي لن تُغيّر كثيراً من الحالة التي يعاني منها السوريون، والتي انتفضوا ضدها، وضحوا بحوالي مليون شهيد، ومئات الآلاف من المعتقلين، وملايين النازحين والمهجرين، ناهيك عن تدمير البنى التحتية، وخلق جيل كامل من دون تعليم، ناهيك عن حالة التوترات والأحقاد الطائفية والعرقية التي يزرعها وينميها النظام والإيرانيون.

إن غياب السوريين وتغييبهم عن قضيتهم، وحصرها بيد الدول الإقليمية والدولية، حوّل بالكامل قضية السوريين وثورتهم التي طالبت بالكرامة والحرية، إلى قضية صراع مصالح بين الدول ذاتها، ومن الطبيعي أن تهتم تلك الدول بمصالحها، أما دماء وآلام السوريين فتأتي لاحقاً.

يدرك السوريون جيداً كل الظروف المحيطة بهم، والتي قد تفرض حلولاً من نوع ما تساهم في تحقيق مصالحهم، لكنهم يدركون أكثر أن أي حلول لا تساهم في تفكيك نظام المخابرات الذي يجثم على صدورهم منذ حوالي خمسين عاماً لن يُكتب له الدوام، فهل تُدرك هذه الدول أن الحلول التي تُفرض ضد إرادة الشعوب لن تدوم.