محامي الشيطان

2020.10.13 | 00:02 دمشق

602x338_cmsv2_8ef52c07-550a-57f4-b97a-820834ccca8a-5026102.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم تحيل ما تواجهه إلى رماد، وكالماء الذي يسل في أرض قاحلة تتلقفها كل مساماتها المتعطشة بلا وعي، ومع هيمنتها على الأفئدة والعقول، صعب دور العقل واستحال المنطق إلى عبث، وصار على المهتمين بالفكر العلمي وبالبحث الجدي، أو على الأقل، البعيدون عن فخ السهولة والتبسيط، أن يلعبوا، أو يحاولوا أن يلعبوا، في أحيان عدة دور محامي الشيطان الفرد، أو الجماعة أو المؤسسة حتى، إن وجدت.  

تكثر الروايات والسرديات التي تغزو المشهد الافتراضي في كل لحظة لتنشر أخبار كاذبة أو غير دقيقة أو حتى أحياناً، وصار نادراً أكثر فأكثر، الأخبار الدقيقة. المصيبة تكمن في الأخبار الكاذبة او المُحرّفة، ولكن المصيبة الأكبر هي التحليلات التي تُبنى عليها، وكما بمقتضاها تقوم الاستنتاجات وتتجه ذات اليمين وذات اليسار، لكي تصيب من يتابعها بالحول أو حتى بالعمى. وحتى الخبر الصحيح، والذي تؤكد مصادر أخرى أكثر جدية من وسائل التواصل صحته، فهو يتعرض لتحليلات واستنتاجات وقراءات تبحث عن جنس الملائكة أو أنها تسرد في نظريات المؤامرة وتزيدها حبكة بوليسية غابت ومُضافٌ إليها عبثية لم يتمكن أشقياء مسرح العبث بأقصى إبداعاتهم من التوصل إليها، وكذا تُبدع خيالات المحللين الافتراضيين لتخرج بأجوبة مشوهة على أسئلة لم يطرحها أحد.

يقف المرء عاجزاً أمام هذا السيل الذي حط من علٍ ولم يجد من يوقف تمدده باتجاه تخريب ما تبقى من عقل ومن منطق، فتراه يحجم عن المواجهة ومحاولة إعادة الأمور إلى "الصراط" المعقول، حاميا  نفسه من غضب "أنبياء" السياسة الافتراضيين والذين يحظون بمتابعات لا يحلم أي عاقل بنسبة عشرة بالمئة منها. ويخشى المرء، والحال كهذه، من أن تنهال على رأسه شتائم لا حدود لمستواها الأخلاقي. لكن من الصعب أن يقاوم الإنسان العاقل رغبة دفينة، كدون كيشوت، في محاربة طواحين الكذب والتحريف، خصوصاً إن كان هو نفسه بالأمر عالماً. فيرمي نفسه دون حساب في مغامرة قلّ أن يخرج منها بأقل الخسائر الممكنة.

قرر الرئيس الفرنسي، لأسباب أكثر من انتخابية، أن يخصص خطاباً يتعلق بالانفصالية الإسلامية وتطرق من خلاله إلى "أزمة في الإسلام". وكان يضع نفسه بهذا في فوهة النقد السوسيولوجي والابيستمولوجي المناسبين والمستحقين لعجالة وسطحية معالجة مسألة معقدة وشائكة. وقد تعرّض الرئيس الفرنسي إثر هذا الخطاب إلى النقد فرنسياً وعربياً من خلال مقالات عدة تُحلّل خطابه وتحاول أن تقرأه بطريقة مختلفة عن مجرد القراءة الأولى المباشرة. مقالات تبحث، من خلال التحليل والإسقاط، عن رواسب الحقبة الاستعمارية وتستعرض عطب جزء من المدرسة الاستشراقية، خصوصاً المهيمن منه على مفاصل الاستشارات السياسية. كما أرجعت من جهتها بعض التحليلات جزءاً من تضخيم الملف الإسلامي، سياسياً وإعلامياً، إلى المرحلة الصعبة

حفلت الصحف العربية بقراءات نقدية جادة للخطاب الماكروني، ولكنها بقيت محدودة التأثير بسبب عزوف الناس عن القراءة والتفاتهم إلى الاختزال السريع الذي تأتيهم به وسائل التواصل

التي تعيشها فرنسا على مستويات عدة. وهي تقوم بالهروب منها وتضخيم حدث "هامشي" بعينه لحرف الأنظار أو تخفيف التركيز في مسائل أكثر أهمية منها، على سبيل المثال وليس الحصر، البطالة المستفحلة والانهيار الاقتصادي والوباء الجارف والبيئة المحترقة. كلها دراسات وتحليلات تجعل من القارئ مستفيداً وتساعده على توسيع مداركه وعلى إثراء مفاهيمه تاركة له في النهاية حرية الاختيار فيما بينها وإن جمعتها محاور تشاركية، أو أن يقوم بعملية تجميع فيما بين بعضها مفضلا الأمر على سواه. 

وقد حفلت الصحف العربية بقراءات نقدية جادة للخطاب الماكروني، ولكنها بقيت محدودة التأثير بسبب عزوف الناس عن القراءة والتفاتهم إلى الاختزال السريع الذي تأتيهم به وسائل التواصل بما هبّ ودبّ فيها. يُضاف إلى ذلك، نزوع بعض الباحثات والباحثين الذين لهم معارف ما، إلى الخوض عميقاً في هذا الفضاء، مما أفقدهم جديتهم ومما أساء للمتلقي العادي الذي إن وقع على اسم يعتقد بتمايزه، وقع في فخ تعليقاته الافتراضية غير المحسوبة أو غير المسؤولة. فصار ماكرون "فاشياً" وفي موقع آخر "صليبياً" وهذا لم يمنعه من أن يكون أيضاً "ماسونياً" وصولاً إلى التطرق إلى ميوله الجنسية وعلاقته الزوجية. فقرٌ فكري وهراء معرفي وجنوح أخلاقي، هذا أبرز ما نقرأ من تعليقات تحصد عشرات الآلاف من المعجبين وتحفّز بطريقة الغوغاء الآلاف من المشاركات. وفقد الموضوع الأساس كل أهميته وصار المطلوب من عقلاء التفكير أن يتصدوا لهذه الانحرافات لوضع الأمور في نصابها وجعل النقد، مهما اشتد، محترماً لمعايير العقل والمنطق.

كتب صديقٌ باحثٌ، يحمل الثقافتين العربية والفرنسية، موضّحاً أنه يناضل منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه ضد سياساته الاجتماعية والاقتصادية وكما أنه ينتقد إدارته لمسألة الإسلام في فرنسا وملف الهجرة، وهو لم يصوت له في الانتخابات السابقة ولن يفعل في قادم الأيام. بالمقابل، وأمام هذا الهياج المنفلت على وسائل التواصل واختلاق الأكاذيب، فهو يشعر بألم الاضطرار للدفاع عن ماكرون قائلاً "أجدُ نفسي مضطراً للدفاع عن إيمانويل ماكرون في وجه التناول الساذج والعنصري لخطابه عن الإسلام".

بالفعل، صار مطلوباً من بعضنا أن يكون محامي "الشيطان" في وجه ما تهرف به وسائل التواصل وتساعد على الترويج له من انحرافات لا تساعد البتة على فهم الحقيقة وإنما ربما تؤدي في بعض الأحيان إلى تأكيد أن الجهل وباء خطير لا ينفع معه التباعد الاجتماعي مادام الفضاء الافتراضي يفتح ذراعيه له حيث ينمو لينفجر في وجه الحقيقة والعلم.