ما رأيكم أن تخرسوا؟

2023.07.06 | 06:50 دمشق

ما رأيكم أن تخرسوا
+A
حجم الخط
-A

قبل ربع قرن تماماً، تحديداً في أيلول/سبتمبر عام 1998، وقف السجين الأشهر في العالم نيلسون مانديلا، وقد غدا رئيس دولة وزعيماً عالمياً، على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وخاطب قادة العالم بكلمات سيحفظها التاريخ له: "بينما سأجلس في "كونو" قريتي، ويتقدم بي العمر ليضاهي عمر تلالها، سيظلّ يحدوني الأمل في ظهور جيل من الزعماء في بلدي ومنطقتي، في قارتي وفي العالم. زعماء لن يسمحوا بأن تُنكر على أحد حريته كما أُنكرت علينا، ولا بأن يُحوَّل أحد إلى لاجئ كما حُوِّلنا، ولا أن يُحكم على أحد بأن يجوع كما حُكم علينا، ولا أن يُجرَّد أحد من كرامته الإنسانية كما جُرِّدنا... فإذا ما تحولت كل هذه الآمال إلى حلم قابل للتحقيق، وليس إلى كابوس يقض المضاجع، عندئذ سأشعر حقا بالسلم والطمأنينة".

أحلامك أوقعتنا في الفخ يا "ماديبا"، وها نحن في وسط الكابوس تماماً. ماديبا هو اسم القبيلة التي ينتمي إليها مانديلا، واسمه الشائع في بلاده. في تلك الفترة تصاعدت لدى الكثيرين آمال بأن جرعة أخلاقية يقودها هذا الرجل، سوف تدخل إلى عالم السياسة الدولية. المخيِّب ليس فقط أن حلم ماديبا بوجود مثل هؤلاء الزعماء الأخلاقيين لم يتحقق. الأدعى للخيبة أن أمثال القادة الذين حلم بهم الرجل كادوا أن ينقرضوا تماماً، وإن كان هناك منهم من ما زال يردد بعض الأمثولات الأخلاقية، فإن السياسات العملية في الواقع، سوف تكذّب كل ما يتردد من كلام غير ذي معنى.

بعد مضي ربع قرن من وقفة مانديلا تلك، في ذات المحفل، سيمتنع خلال الأسبوع الماضي، تسعةٌ وستون مندوباً يمثلون تسعةً وستين زعيم دولة يفتقدون لأي حسٍّ أخلاقي مما تحدث عنه ماديبا

هل بدا لكم عنوان مادتي وقحاً؟ حسناً، انتظروني قليلاً، وسوف تنضمون لي. من على نفس المنبر الذي أدلى به مانديلا بكلماته تلك، لكن بعد مرور واحد وعشرين عاماً سيقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2019 ليخبرنا (هو، أو من كتب له خطابه) بأن "الفجوة الأساسية في مختلف أنحاء العالم، وعلى مرّ التاريخ، واضحة وضوح الشمس. إنها الفجوة بين من يقعون ضحية تعطشهم للسيطرة، فيخالون أن قدرهم الحكم على الآخرين، وبين الشعوب والأمم التي تريد حكم نفسها بنفسها ليس إلا". يا للجرأة، ترامب يقدم لزعماء العالم دروساً في الأخلاق السياسية ويتحدث عن تحرر الشعوب! سيد ترامب، ما رأيك أن تخرس. والآن ألا ترون أن العنوان كان أقل وقاحة من حديث ترامب.

بعد مضي ربع قرن من وقفة مانديلا تلك، في ذات المحفل، سيمتنع خلال الأسبوع الماضي، تسعةٌ وستون مندوباً يمثلون تسعةً وستين زعيم دولة يفتقدون لأي حسٍّ أخلاقي مما تحدث عنه ماديبا. سيمتنعون عن التصويت على إحداث آلية مستقلة للكشف عن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين والمخفيين قسراً في سوريا، وسيصوت أحد عشر مندوباً يمثلون أحد عشر زعيماً، من المصنفين في الدرك الأسفل على مقياس أي أخلاق، ضد القرار. وسوف يسوق كل مندوب من هؤلاء مبررات بلاده للموقف المشين، دون أن تواتيهم الحصافة أن يخرسوا.

استباقاً لأية ملاحظة، ولمن يعتقدون أنه علي التنويه هنا بممثلي الدول التي صوتت لصالح القرار، أرى ضرورة التأكيد على أن ما فعلته تلك الدول ليس مأثرة أخلاقية تستحق الشكر أو حتى التنويه. ما فعلته تلك الدول أنها لم تطلق النار على ضحية بريئة، ولم تدخل سكّينها أعمق في جسد بلاد تنزف. فهل يستحق هذا الأمر الإطناب بالمديح أو حتى لفت النظر. بداهةً من الطبيعي جداً لمن يمتلك الحدَّ البشري الأدنى من الأخلاق أن ينحو هذا النحو، ونحن حين نتصرف بالفطرة التي لم يستغرقها الإجرام، أي حين نسلكُ كبشر طبيعيين ولسنا مجرمين، فإننا لا نستحق الشكر. كأن يقول لك أحدٌ ما "صباح الخير" ببرودٍ أو بحرارة، فإنك ترد "صباح الخير"، وليس مطلوباً منك الرد: "أشكر لك هذا الكرَم سيدي، أن بادرتني بقولك صباح الخير". إنها طبائع الحياة ليس إلا.

باستثناء دولتين، فإن مندوبي زعمائنا العرب امتنعوا عن التصويت، فيما بدا أنه إجماع عربي سياسي، لم تخرقه سوى دولتين مارقتين على خسة هذا النوع من الإجماع الجرمي هما الكويت وقطر. يجب الانتباه هنا أيضاً إلى ضرورة عدم امتداح البلدين، فما فعلتاه بتصويتهما لصالح القرار هو الأمر البشري والإنساني الطبيعي. لا يُشكر إنسان أو حتى بلد لأنه في موقفٍ ما، لم يتسبب بأذى لمن حوله. الموافقة على المطالبة بالكشف عن مصير عشرات آلاف المخفيين قسرياً هو الأمر الطبيعي للحدِّ من استفحال أكثر مجازر الحاضر فجاجةً، وما دون هذا الموقف جريمة على الدول التي ارتكبتها أن تشعر بالعار، لو كانت تعرف معنى العار، أو لو كان قادتها يمتلكون الحس الأخلاقي بحدوده الدنيا. ألم يتساءل هؤلاء الزعماء، ولو للحظةٍ، كيف ستسجل هذه الواقعة في تاريخ دولهم وليس في تاريخهم الشخصي وحسب؟ أعلم أنكم ابتسمتم من استخدامي تعبير "تاريخهم الشخصي".

كان أشد ما أثار حنقي حقيقةً، اشمئزازي بالأحرى، هو البيان الصادر عن وزارة الخارجية اللبنانية، لتبرير عدم تصويت لبنان لصالح القرار. البيان الذي جاء رداً على استنكار عائلات المفقودين اللبنانيين في سوريا لموقف بلدهم. لدى لبنان منذ الثمانينيات سبعة عشر ألف مفقود اختفت آثارهم بعد اعتقالهم لدى المخابرات السورية، ومع ذلك تمتنع مندوبة لبنان إلى الأمم المتحدة عن تأييد القرار! يقول بيان الخارجية اللبنانية إن الأمر جاء "تماشياً مع شبه الإجماع العربي بالامتناع عن التصويت، ورغبةً منه بعدم تسييس هذا الملف الإنساني بامتياز".

لم ينتبه جهابذة الخارجية اللبنانية أنهم أقحموا السياسة ولم يحيّدوها هنا، فانساقوا إلى الإجماع العربي سياسياً، متناسين أن هذا الملف هو جرح إنساني سوري لبناني فلسطيني، سيّما أن القرار لا يمتلك في آليات تشكيله أيّ أدوات لتجريم ومحاسبة من اعتقل وأخفى هؤلاء الضحايا! يكمل البيان ركاكتهُ بالتأكيد على تمسك لبنان بحل هذه القضية التي "تشكل جرحاً نازفاً وألماً مُستداماً لأهالي المفقودين، من خلال الحوار والتفاهم بين لبنان وسوريا". لكم أن تتخيلوا أن الحديث عن الحوار مع سوريا يخصّ ملفاً عمره أكثر من أربعين عاماً لم تنجح خلالها أية حكومة لبنانية بحلّه! هنا أيضاً، أما كان حريّاً بالخارجية اللبنانية أن تخرس؟

رغم تأييدي الدائم للاعتراف بدولة فلسطين كبلد مستقل، إلا أنني لأول مرة كنت سعيداً بأنه ليس للدولة التي نحلم بالاعتراف بها منذ عقود، مندوبٌ يصوّت في الأمم المتحدة! لم أكن أريد تلويث اسم فلسطين بامتناع مندوب حكومتها عن التصويت على القرار، بينما يصوت المندوب الإسرائيلي بالموافقة. هل تستطيعون التخيّل؟ مع وجود آلاف الفلسطينيين المختفين في معتقلات الأسدين الأب والابن، كان هذا ما سيحدث بالتأكيد لو كان لدولة فلسطين صوت هناك، فما يجري من تطبيع مع نظام الأسد بعد مجازره في مخيم اليرموك وغيره، لا يوحي إلا بانجرار المندوب الفلسطيني إلى إجماع العار العربي. أبتسم لافتراضي الوهمي للموقف الذي لم يحدث في الواقع أصلاً، بينما حقيقةً كنت أود البكاء.

أتذكر وجودنا في سجن الأسد الأب، وكيف كانت تعنينا أية إشارة تومئ لقضية المعتقلين، وكم كان يُفرح قلوبنا وأرواحنا أي موقف إيجابي لأي جهة تطالب بالإفراج عنّا

أخمِّنُ أنكم تتساءلون: وهل تعتقد بأن إحداث تلك المؤسسة المستقلة سوف يُخرِج زير المعتقلين من بير الأسد وباقي الأطراف التي مارست الإخفاء القسري؟ إطلاقاً لا. فأنا لست أحمق إلى الدرجة التي تجعلني أصدق أن مفاعيل حقيقية سنلمسها في الواقع بسبب القرار، بل وباعتقادي أن الدول المنخرطة في الصراع التي صوتت لصالح إحداث المؤسسة لن تدفعَ باتجاه آليّة فاعلة لعملها، إلا إذا اقتضت مصالحها ذلك مستقبلاً. ما أنا بصدد الحديث عنه هنا، هو فقط جفاف ماء الوجه عن قادة يفتقدون لأي نوع من الأخلاق التي تحدّث عنها ماديبا قبل ربع قرن.

أحاول اليوم أن أضع نفسي في موقع المخفيين في السجون السورية، ولن أذكر هنا المعاناة الهائلة لعائلاتهم، وهذا ملفٌ جارح وحده. أتذكر وجودنا في سجن الأسد الأب، وكيف كانت تعنينا أية إشارة تومئ لقضية المعتقلين، وكم كان يُفرح قلوبنا وأرواحنا أي موقف إيجابي لأي جهة تطالب بالإفراج عنّا. أسأل نفسي، ماذا لو علم اليوم آلاف المعتقلين أن تسعاً وستين دولة ترفض الخوض في مصيرهم، ومن بينها معظم الدول (الشقيقة)؟

لم تكن وقاحة تلك الدول فقط بالامتناع عن التصويت، بل بالاسترسال الرخيص لإقناعنا أنها إنما فعلت ذلك لأسباب وجيهة، ليس من بينها الاستهتار بأروح عشرات الآلاف ممن ما زالوا يقتلون في سجون الأسد منذ عقود. بعد موت باسل الأسد بحادث سيارة مطلع عام 1994. وقفت أمٌّ سورية خلف الشبك، في أول زيارة لابنها المعتقل طفلاً منذ أكثر من عقد في سجن صيدنايا، وفي إشارة منها لاعتقادها بأن موت الابن البكر لحافظ الأسد عقاب سماوي، قالت: "الله كبير".