ما العيب في التظاهر نتيجة الجوع وتكسير سرير بروكرست الثوري؟

2023.08.25 | 15:15 دمشق

آخر تحديث: 25.08.2023 | 15:15 دمشق

ما العيب في التظاهر نتيجة الجوع وتكسير سرير بروكرست الثوري؟
+A
حجم الخط
-A

قوبلت الأنشطة الثورية بعد انطفاء جذوة ثورة عام 2011 بموقفين رئيسيين من جمهور الثورة ذاته بموقفين رئيسيين: التفاؤل المفرط وبيع أوهام الانتصار الساحق الماحق السريع، أو التشكيك بالحراك وقياسه على "سرير بروكرست الثوري".

دفع شوق كثير من السوريين إلى الانتصار والرغبة بتحقيق الأحلام دفعة واحدة للظن أن مظاهرات السويداء ستسقط النظام دفعة واحدة! والواقع والتجربة يقولان إن هذا النظام المتأصل فساداً وخراباً وتقاطع مصالح إقليمية ودولية لن يتهدم بنيانُه دفعة واحدة، بل يحتاج إلى ضربات متتالية طويلة ومتواصلة وهادئة أو قوية لكي يهتز عرشه ويتهدم ويبتعد عنه المؤمنون به أو من تتواكب مصالحه مع مصالحهم على المدى الطويل!

الجانب المهم في مظاهرات السويداء أنها دفعتنا للتساؤل:

من كان يعتقد في لحظات يأسنا أن هناك من يملك الجرأة لشتم الأسد مرة أخرى أو حرق صورته أو شتيمته في مناطق حكمه في ساحة عامة؟

أهو نوع من الانتحار أو الشجاعة أو الوعي أو البطولة أو الإيمان بالحرية أو فقدان الأمل أو الجوع؟ أم أنه كل ذلك!

يجلس محللون في غرف الواتساب وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، في السهرات واللقاءات لكي يقولوا: إن النظام لن يسقط من السويداء، أو أن هذا النوع من الحراك لن يسقِط نظاماً لديه حلفاء مثل إيران وروسيا!

والقراءة الواقعية تقول: نعم، هذا كلام صحيح، إن كنا ننتظر من هذه المظاهرات المدنية التي شارك بها مئات أو (آلاف إن شئتم) أن تسقِط نظام بشار الأسد الذي يستطيع ببساطة أن يعتبر السويداء غير موجودة على الخارطة السورية كما يقول مناصروه، ليس تدميراً كما فعل مع محافظات أخرى، بل إهمالاً، يجيد النظام لعبة الإهمال؛ إن شعر أن حجم حراكك لن يهز عرشه!

وسنمشي مع هذا النوع من التفسير ونقول: إن النظام الذي لم تسقطه المظاهرات المليونية والتحركات العسكرية يوم كان هناك الآلاف من المقاتلين عبر مسار الثورة السورية من الصعب أن يسقط اليوم عبر تلك المظاهرات!

نعم لكن هناك في الوعي الجمعي التراكمي أمر مهم وهو استمرار تكسير الصنم وتحطيم المقدس السياسي والرمزي لدى جماعة بشرية ما وهو ما يحدث مع بشار الأسد، إذ ثمة تحقير له كشخص ولمقامه بصفته رئيساً لسوريا عند مناصريه، ومعلوم أن جهد الحت والتعرية الثوري طويل الأمد له آثار إيجابية، وموجات الثورة السورية لن تنتهي، وكل مرة سيكون لها أسبابها منذ كسر السوريون صمتهم عام 2011.

هذا الفعل الثوري يأتي في لحظة تاريخية مناسبة حيث يئس كثيرون ونام كثيرون على وهم الانتصار وحسب آخرون أن السوريين في مناطق النظام تم إخراسهم إلى الأبد وأن مقولة "كنا عايشين" كانت الأفضل؟

هناك سؤال آخر: إن لم تقم تلك المظاهرات في السويداء المتضمنة هذا التحقير لرئيس النظام في الجغرافية التي يديرها، هل لدينا خيارات أخرى، ويمكن أن نختار منها للتعبير عن احتقارنا لرئيس النظام والدعوة لإسقاطه؟ أم أن هذا الفعل الثوري يأتي في لحظة تاريخية مناسبة حيث يئس كثيرون ونام كثيرون على وهم الانتصار وحسب آخرون أن السوريين في مناطق النظام تم إخراسهم إلى الأبد وأن مقولة "كنا عايشين" كانت الأفضل؟

من جهة أخرى؛ الحراك في السويداء فيه كسرٌ لثوابت شريحة اجتماعية؛ حسب معظمها، فترة طويلة، أن أمانها وأمنها مرتبط بالنظام، وها هو اليوم يتكسر، ويبدأ وعي جديد وأفكار مختلفة لدى الجمهور الأعم من الشريحة، خاصة بعد فعل الاحتكاك نتيجة النزوح القسري الداخلي، وتعرف السوريين إلى بعضهم بعد ثورة عام 2011.

قرأتُ لصبية، ليس من عادتها الاهتمام بالشأن العام من السويداء: ما معنى فيدرالية؟ وهل ستؤمن لنا الفيدرالية حقوقنا؟ وترد عليها سيدة طاعنة في السن، من مدينة شهبا، كانت عبر تاريخها تحسب أن الولاء للنظام الحاكم جزء من عبادة الإله والمحافظة على قيم المجتمع تقول: سرقونا وهجروا أولادنا ولم نهنأ بهم! يجب أن نتحرك! وتتبع حديثها هذا في لحظات تبتّلها بدعوات لا تنقطع على بشار الأسد ونظامه اللذين حرموها من ابنها وابنتها عبر السفر خارج البلد منذ زمان طويل ولم ترافق لحظات عمرهم مثلما رغبة كثير من الأمهات!

وهناك سؤال آخر: ما الفائدة من التشكيك من قبل شريحة من جمهور الثورة بذلك الحراك؟ وهل الأفضل ألا تخرج تلك المظاهرات؟ وأن يبقى الوضع الثوري يائساً؟

تاريخ الحراكات الثورية في العالم يكشف أن الأنظمة الاستبدادية قد تسقط دون حسابات كبيرة، أحياناً بعوامل بسيطة، والمزيد من اهتزاز صورتها وتكسير رمزيتها لدى مواليها أمر مفيد جداً. قد تسقط من حيث لا يدري أصحاب التحليل العقلاني، قد تحرض على حالة اغتيال لرأس النظام، قد تؤجج خلافاً داخل شريحة المستفيدين.

في كل الحالات الحراك مفيد لأنه يولد فعلاً ما، ورد فعل، وكذلك تعيد تذكير المجتمع الدولي بنا كسوريين مهملين!

هناك فريق من مناصري الثورة لا يتعلم من الأخطاء الثورية، مهنته الرئيسية التشكيك بكل جهد إن لم يكن رأس حربته، أو على مقاساته، يقول: هذه مطالب اقتصادية ومطالبنا سياسية!

يدرك محركو المظاهرات وقادتها من الصبايا والشباب في السويداء ذلك التشكيك "الثورجي"، فيقولون: مظاهراتنا ليست بسبب الجوع!

وما العيب في أن يكون الجوع محركاً لثورة؟ هل من الضروري أن تكون التحركات مرتبطة بوعي سياسي ومطالب حرية وسواها دائماً عبر وعي مسبق وسابق للجوع؟

لماذا نحتقر غريزة الجوع والخوف كمحركين؟ أنريد أن نقول فقط إن حراكنا فكري واع له أهداف سياسية وطنية؟ لا يوجد سرير بروكرست ثوري نقيس عليه، وهو المعتمد عالمياً و"إيزو" للجودة الثورية، نسيء من خلاله لحراك الآخرين أو نعتقد أنه يجب أن تكون دوافع تحركاتهم هي ذاتها دوافعنا.

مظاهرات الجوع السوري مظاهرات مقدسة وهي تقودنا إلى سؤال: هل من المعقول بعد كل الذي وصلت إليها البشرية اقتصادياً أن يكون هناك بلد كسورية بلا خدمات أساسية، أو أن دخل المواطن لا يكفيه للطعام، أن ننعم نحن في مغترباتنا بما لذ وطاب ويجوع أهلنا في الداخل؟

ثورات الجوع هي الأهم، لأنها تضمن مشاركة الجميع، ولن تهدأ إنْ أشبعت تلك الغريزة كما يتوهم كثيرون، لأن البشر وهم جائعون يتنبهون إلى أسئلة أخرى لها علاقة بأين ومن أين وإلى متى وما المآل وكيف؟

تتعلم الشعوب الجائعة من تجاربها، ولن تهدأ أحوالها إن أشبعت تلك الغريزة فما بالك بنظام لن يستطيع إشباع جوع مواطنيه! لنقل بطريقة أخرى: جربنا جوانب من الثورة لأسباب حقوقية ومطلبية ودينية وجغرافية وقومية وعرقية وسوى ذلك، تعالوا لنجرب التظاهر بسبب الجوع؟

لماذا نتطهر من الجوع ونحن ضحاياه؟ ما هذا القالب الثوري الذي يجعل صبية تقف في إحدى ساحات السويداء أو ريفها لتنفي الجوع عن أسباب مظاهرتها؟ حسب الجوع جامعاً لنا نحن السوريين وهل أعظم من الجوع؟

من جماليات الحراك في السويداء هذه المرة أن الحراك الاجتماعي النسائي والرجالي تواكب مع حراك مشايخي ووجهائي لافت، فماذا يقول المشايخ للجائعين؟ وهل يستطيعون أن يتعاطفوا مع المجوِّع ضد الجائع؟

سأنقل لكم مشهدين عايشتهما في هولندا عند ما يسمى الشعوب المتحضرة والمكتفية ودولة الحرية والديمقراطية والاستقرار والمواطنة والرعاية الاجتماعية والعالم الأول:

الأول: إنْ تأخر قطار أو قطارين على الخط نفسه تجد المسافرين يهجمون على القطار الذي يليه هجمة شخص واحد بكل حماس وفطرية وبدائية (إن شئت) ليحجزوا مقعداً لهم، فيعود الإنسان إلى فطرته، إشباع الحاجات، وهي ليست أكثر من حاجة تنقل للوصول إلى بيته أو عمله أو موعده!

والثاني: إبان كورونا والحاجة إلى المحارم الورقية أو سواها من بعض أنواع الأطعمة حين يجد الناس أن هناك قلة في المعروض يستعيدون حالتهم البدائية الفطرية ويجمعون أكبر قدر منها في منازلهم نتيجة الخوف من عدم توفرها!

مظاهرات السويداء ضربة جديدة لبشار الأسد ونظامه، قد تكون أقرب إلى "ضربة كف، أو ضربة شحاطة على وجهه"، لن تسقطه، لكنها تهينه وتنكل بصورته

لا عيب في لهفة الجائع وحاجاته وما يمر به، ويكفينا إنكاراً لحاجاتنا الأساسية بحجة التطهير والتطهر من تلك الحاجات نحو المفاهيم العاقلة والواعية لحراكنا من جهة، ومن جهة أخرى آن لنا أن نكسر أي سرير بروكرست ثوري ونرحب بأي حراك يسهم في تفتيت قدسية النظام السياسي في الجغرافيا التي يديرها الأسد أو سواه من مستبدين على الأرض السورية، سواء أكان في السويداء أو درعا أو الساحل السوري! وآن لنا أن نتعلم من أخطائنا ونحترم تحركات الآخرين في سياقاتها وظروفها وقوتها الناعمة وجمالياتها.

مظاهرات السويداء ضربة جديدة لبشار الأسد ونظامه، قد تكون أقرب إلى "ضربة كف، أو ضربة شحاطة على وجهه"، لن تسقطه، لكنها تهينه وتنكل بصورته من جهة.

ومن جهة أخرى، تعيد تلك المظاهرات التذكير بروح الثورة، وتجديد أوكسجينها الذي يحتاجه السوريون في كل مكان، وقد بدا أنهم استردوا شيئاً من روح ثورتهم الأولى عام 2011 وهم اليوم في لحظة اختناق، ويكفي الحراك السويدائي ذلك الأثر وتلك الروح المتوثبة التي زرعتها فينا!