icon
التغطية الحية

ماذا نعني بـ "المدارس الفنية" في الفن التشكيلي الحديث؟

2023.01.29 | 15:00 دمشق

مدارس فنية
+A
حجم الخط
-A

من المعلوم أن كلمة مدرسة فنية توحي بوجود مجموعة من الفنانين تربطهم صلة مشتركة من خلال نتاجهم الفني حيث تجمعوا واعتمدوا قواعد ومفاهيم فنية خاصة بهم، وغالباً ما تكون جديدة ومحدثة على الساحة الفنية، ومختلفة عما سبقها بالضرورة. أو مجموعة من فنانين تتلمذوا على يد فنان كبير وتبنوا أسلوبه أو رؤيته.

من خلال الإطلاع على تاريخ الفن الحديث نجد أن هناك عدد كبير من المدارس الفنية التي أصبحت شائعة ومألوفة لدى المهتمين بالفن التشكيلي، ولكن هل هذه التسميات والتقسيمات تحمل مدلولاً كافياً لإعطائنا تصوراً واضحاً عن الفنان المنتمي لهذه المدرسة أو تلك؟ وهل تقدم المعنى الدقيق والمعبر عن ذاتية الفنان؟

من الواضح أن هذه التقسيمات تفتقر إلى الدقة الموضوعية  في كثير من الأحيان، حيث أنها اصطلاحات نقدية أطلقت في مرحلة معينة  للتعبير عن الاتجاه العام الذي كان بارزا في الأوساط الفنية في تلك المرحلة والذي كان محطا للجدل بين مؤيدي هذا الاتجاه المستجد وبين المعارضين له لما فيه من كسر لقواعد أومفاهيم كانت سائدة في حينه، ثم تأكدت هذه التسميات فيما بعد للتمييز بين أبرز التجمعات الفنية والتيارات التي كانت مؤثرة بشكل مباشر على مسيرة تطور الفن التشكيلي.

ومن خلال التدقيق نجد أن هذه التصنيفات أصبحت مع الزمن تدل غالبا على "شكل فني" ما محصور في إطار زمني معين عائد للظروف والأفكار التي أدت إلى ظهور المدرسة، وقد نجد تباينا في رأي النقاد في تصنيف هذه المدارس والتيارات واختلافهم على وضع الفنانين ضمنها أو اختلافهم على تحديد هوية الفنان وانتمائه لمدرسة ما. والسبب في هذا الاختلاف أن النقد الفني كان يلح على أهمية الشكل في تصنيف المدارس الفنية أوالتيارات، وعليه فإنه يضع كل الفنانين المتقاربين شكلا ضمن مسمى معين وهذا بسبب عدم فهم أن المدارس والاتجاهات الفنية ليست مجرد أشكال، وظهورها خاضع لاعتبارات غير شكلية ومفاهيم عديدة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو فلسفية أو فنية محضة، ولذلك لا يمكننا فهم المدارس الفنية  بعزلها شكليا عن الظروف الاجتماعية والفكرية التي كانت مؤثرة في رؤية الفنان ونشاطه.

وعليه نقول إن كل مدرسة تكونت ضمن ظروف خاصة بها ولها أهدافها الخاصة وإن كل فنان منتمٍ لهذه المدرسة له شخصيته المميزة، ولذلك نرى أنه يمكن للفنان الواحد أن يكون منتمياً لأكثر من مدرسة ونراه ينتقل من تيار لآخر. حتى أن بعض الفنانين الكبار قادرون على الجمع بين أكثر من اتجاه والإنتماء لأكثر من تيار، وذلك لعدم قدرة المدرسة الفنية على فرض رؤيتها ضمن إطار محدد على الفنان المتميز.

إن الإختلاف الدائم  بين النقاد على تحديد ما هو جوهري وذو قيمة في العمل الفني هو الذي أدى إلى عدم قدرة المدرسة الفنية على وضع إطار محدد يستطيع الفنان من خلاله أن يكون منتميا كليا لهذه المدرسة أو تلك. فحيث أن أحد النقاد يعتبر الشكل الفني هو الشيء الأهم نجده يصنف الفنانين حسب لغتهم الشكلية وأساليبهم... فقد يجمع بين فنانين مختلفين في موضوعاتهم ولكنهم متفقون في لغتهم الشكلية، وقد يذهب بعض النقاد إلى أن الموضوع هو ما يهم في العمل الفني فيختلف الفنانون شكلا ويتفقون في المواضيع ضمن هذه المدرسة، وقد نرى بعض النقاد يضعون المضمون على أنه الشيء المهم في العمل الفني فتتشابه المضامين وتختلف المواضيع والأشكال... وهلم جرّا.

إن التحول الجذري الذي مرت فيها الحركة التشكيلية من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية هو تحول ثوري له جذوره في الواقع وله أسبابه الآجتماعية والفكرية والذي انعكس إلى تحول في المضامين والموضوعات والأساليب الفنية الجديدة

في الحقيقة إن أول مدرسة فنية لها قواعد ثابتة هي المدرسة الكلاسيكية. وتعرف على أنها "صياغة دقيقة للوحة، وتعتمد على قوة التعبير بالخط  بشكل رئيسي، وهي حيادية في التعبير، وتجعل من اللوحة عملا موضوعيا وتعتمد التكوينات الهرمية التي توحي بالرسوخ والمتانة". إن  هذا التعريف هو تعريف شكلي تماما، يفرض نفسه على اللغة الفنية وعلى الأسلوب الفني الخاص  بالفنان.

وبناء على ذلك، نستطيع أن نقول إن المدرسة الرومانتيكية المتمردة على الكلاسيكية هي الحركة ضد السكون ورفض التكوينات الراسخة من أجل التكوينات الحركية، وبأنها تدعو إلى إعطاء الللون أهمية لاتقل عن الخط، وإعطاء التعبير اللوني الأولوية وإخراجه عن حدود الخط المحدد للأشكال، بل وحتى إهمال الخط بالكامل إذا لزم الأمر.

إن التحول الجذري الذي مرت فيها الحركة التشكيلية من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية هو تحول ثوري له جذوره في الواقع وله أسبابه الآجتماعية والفكرية والذي انعكس إلى تحول في المضامين والموضوعات والأساليب الفنية الجديدة.

موت سقراط
لوحة موت سقراط من المدرسة الكلاسيكية للفنان الفرنسي جاك لويس دافيد

كل مدرسة فنية هي عبارة عن مفهوم جديد للفن مغاير للمفاهيم السابقة ولا يتوقف على الشكل وحده، لأن الفنانين الرومانتيكين كانوا مختلفين في أساليبهم الفنية، لا تجمعهم صيغة ثابتة مثل الكلاسيكين حيث كان لكل فنان رؤيته الخاصة وشخصيته الفنية التي تميزه وتضمن له استقلاله وفردانيته، فهو يشارك المدرسة في أهدافها الثورية لكنه يستقل ضمن المدرسة بأسلوبه الخاص. فنرى مثلا ديلاكرواه يختلف عن ثيودور أو عن تيرنر، حتى أن بعض النقاد ذهبوا إلى أن الرومانتيكة تختلف بين الألماني والفرنسي والإنكليزي.

الشعب
لوحة الحرية تقود الشعب للرسام الرومانتيكي الفرنسي يوجين ديلاكرو

وللتوضيح أكثر نذكر على سبيل المثال المدرسة الواقعية، هذه المدرسة التي عبرت عن نفسها بصيغ مختلفة وعلى فترات زمنية متباينة حسب الظروف والتطورات الفنية التي كانت سائدة في زمان أو مكان ما، خصوصا في بداية القرن العشرين حيث كان الفن يذهب إلى الأشكال الأكثر تجريدية، ما جعل الواقعية بمثابة رد الفعل ضد التجريد بشتى أشكاله. وبعد أن نجح التجريد في فرض نفسه كتيار فني، تطور مفهوم الواقعية كمضمون، ليصبح الارتباط بالواقع والتعبير عنه بصياغات وأشكال مختلفة ومتباينة.

جوال
لوحة الجوال فوق بحر من الغمام للفنان الرمانتيكي الألماني كاسبر ديفيد فريدريش

فبيكاسو مثلا يمكن اعتباره فنانا واقعيا بامتياز على الرغم من تغير الأساليب والأشكال الفنية الخاصة به على مدى مسيرته الفنية، فقد ظل واقعيا من حيث ارتباطه بالواقع ورغبته بالتعبير عنه، ولهذا السبب نلاحظ أن نقاد الفن لم يعودوا يكتفوا بذكر كلمة واقعية منفردة بل ترفق دائما بتوصيف له علاقة باللغة الشكلية أو بالأسلوب الخاص بالفنان فنجد مثلا (واقعية تعبيرية) و(واقعية سيريالية) و(واقعية شاعرية)...

لوحة
لوحة للفنان الاسباني بابلو بيكاسو (المدرسة الواقعية التعبيرية)

 

لوحة
لوحة للفنان البلجيكي رينيه ماجريت (الواقعية السيريالية)

هذا الأمر ينطبق أيضا على التجريد، حيث أصبح متعدد الاتجاهات. فهناك (التجريد الهندسي) و(التجريد التعبيري) و(التجريد المحض)... إلخ.

وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أن نوردها، ولكننا لسنا بمعرض سرد وتحليل مسيرة تطور المدارس الفنية التشكيلية، وإنما للتركيز على أهمية فكرة  نشوء المدارس والتيارات الفنية والاستقطابات التي تحدثها في مجتمع الفنانين، حيث أن كل مدرسة كانت تضع قيم فنية جديدة وتعلي من شأنها على حساب مدرسة أخرى، وهذا بدوره يؤثر على تطور الفن التشكيلي الحديث باستمرار، فاتحا الباب على مصراعيه أمام الابتكار والتجريب.

تجريد
لوحة للفنان الاميريكي جاكسون بولوك (التجريدية التعبيرية)

من ناحية أخرى، فإن محاولة فهم أهداف كل مدرسة والقيم الشكلية التي قامت عليها يعيننا بشكل كبير على قراءة وتذوق الأعمال الفنية التي تم إنتاجها تحت ظل هذه المدرسة مع الأخذ بعين الاعتبار ذاتية الفنان وفرديته وشخصيته المستقلة.

وختاما من المهم جدا أن لا نفهم المدارس الفنية على أنها جامدة وثابتة ومؤطرة، كونها تتطور باستمرار ويمكن للفنان دائما الإضافة إليها أو إهمال بعض المفاهيم لصالح لغته التشكيلية الخاصة أو لأهداف لها علاقة بواقعه الاجتماعي والثقافي.