icon
التغطية الحية

النزعة الشكلية في الفن الحديث

2022.09.03 | 06:30 دمشق

لوحة
+A
حجم الخط
-A

لطالما كان إطلاق اصطلاح ما على النتاجات الفنية القديمة تحديدا، أمراً يسيرا. حيث أنه من الممكن تصنيفها زمانيا كما هو الحال مثلا بعبارة "فنون بابل القديمة" وفنون بابل الحديثة، أو مكانيا كما هو الحال بمصطلح "فنون وادي الرافدين"، أو حتى دينيا كما في حالة "الفنون الإسلامية" أو "البوذية"...

ومنذ قرون كان للنشاط النقدي دورا هاما في بلورة المصطلحات الدالة على الحركات الفنية والظواهر المرافقة لها في الغرب، وكان مصطلح الحداثة أو الفن الحديث يستخدم دائما عندما يستشعر النقاد اختلافا في طبيعة النتاج الفني في مرحلة ما، وقد تكرر استخدام هذا المصطلح كثيرا لوصف مرحلة فنية معينة، وازداد الارتباك والاختلاف بين النقاد والدارسين في عصرنا الحالي على تحديد البداية الحقيقية للفن الحديث وذلك بسبب تعدد الحركات الفنية وتواترها في نفس المرحلة الزمنية تقريبا.

مفهوم الحداثة والفن الحديث

وبعد شد وجذب وجدال طال أمده، اتفق معظم النقاد لاحقا على أن البداية الحقيقية لفن الحداثة كان في عام 1863 ترافقا مع إنشاء "صالون المرفوضين" في باريس، أي أن الحداثة اصطلاحا بدأت مع ظهور المدرسة الانطباعية وما تلاها من مدارس فنية مختلفة كلها تنضوي تحت مفهوم الحداثة أو الفن الحديث، إلى أن ظهرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حركات وظواهر فنية شديدة الغرابة يطلق عليها الآن فن ما بعد الحداثة كـ "المفاهيمية" و"فن البوب" وغيرها.

النظرية الشكلية في الفن الحديث

كان لنقاد وفلاسفة الفن دور كبير في التأثير على الناتج الفني لدى الفنانين وأحيانا كثيرة يثير النقاد الانتباه إلى قيم فنية كامنة في العمل الفني لا تتم ملاحظتها بسهولة، فقد ظهرت الكثير من النظريات الفنية النقدية لتعريف الناس ومحاولة استمالتهم وجذبهم إلى مايتم إنتاجه في الفن الحديث، حيث أن معظم الجمهور كان يؤمن بطريقة غير نقدية طبعا بنظرية المحاكاة، ومن هذه النظريات "النظرية الشكلية" التي سنلقي عليها الضوء.

تعد النظرية الشكلية على النقيض تماما من نظرية المحاكاة في نواحٍ متعددة، فمثلا على حين أن نظرية المحاكاة تعد الأقدم على الإطلاق من بين النظريات الجمالية فإن النظرية الشكلية تعتبر من أحدث نظريات النقد الفني، وعلى حين أن نظرية المحاكاة تتبنى مماثلة الموجودات في الطبيعة والنقل الأمين لموضوعات العمل الفني (وهذا ما يستهوي معظم الناس) فإن النظرية الشكلية تتحدى السواد الأعظم من الجمهور عندما تقول أن ما يعتقده الناس فنا جميلا ليس فنا على الإطلاق في حقيقة الأمر!

وعليه فإن معظم جمهور الفن تفوته فرصة تذوق (الفن الحقيقي) فهي تتبنى فكرة أن الفن الحقيقي يجب أن يكون منفصلا تماما عن مواضيع التجربة المعتادة، فالفن قائم بذاته وهو غير مكلف بترديد "الحياة" أو الاقتباس منها، وقيم الفن لا يمكن أن توجد في أي مجال من مجالات التجربة البشرية، فالفن إذا شاء أن يكون فنا فيجب أن يكون مستقلا مكتفيا بذاته.

هنا نجد أن هذه النظرية متطرفة إلى حد بعيد حيث أنها تحد صارخ لكل ماهو مألوف في الفن التشكيلي، مثيرة ما يشبه الحرب ليس فقط ما بين المفكرين بل ما بين الفنانين أنفسهم، ولم تستقر هذه النظرية حتى توطد فهم جديد كليا لطبيعة وقيمة الفن.

نشوء النظرية الشكلية

وحتى نفهم النظرية بشكل أفضل لابد لنا من العودة إلى الجذور التاريخية التي أدت إلى ظهورها، ونلقي الضوء على الاتجاهات الفنية التي نشأت منها النظرية الشكلية، هذه المدارس والاتجاهات التي تسمى اليوم بالفن الحديث بداية من ظهور الانطباعية.

ركز الانطباعيون على موضوع الظل واللون في أعمالهم حيث كان جل اهتمامهم منصب على منصب على التركيز على السطوح الخارجية للأشياء وعلى انعكاسات الضوء وعلاقة الألوان ببعضها دون أن يولوا أهمية حقيقية للشيء المراد تصويره، فبنظرهم كان الموضوع أقل أهمية من العمل الفني وهو "حجة من أجل الرسم" كما يقول "دييجا" الفنان المعروف، أو بحسب النحات "رودان"  الذي يقول: "إن إمرأة أو جبل أو حصان تتساوى كلها بالأهمية إلى أغراض النحت".

هذه الفكرة تعتبر الآن من أهم أفكار الفن الحديث ألا وهي أن الموضوع المراد تمثيله، له أهمية ضئيلة في المنتج الفني.

وهكذا ذهب الانطباعيون إلى التقليل من صلابة وتكتل الموضوعات المراد تصويرها على حساب التركيز على الضوء واللون، فنلاحظ بشكل واضح هشاشة الكتل وخفوتها، حيث أن التصوير في كثير من الأحيان كان يبدو بلا قوام صلب متين وبلا كتلة واضحة وراسخة، كما هو الحال في لوحة  كلود مونييه ( قصر الدوق في البندقية )

لوحة كلود مونييه قصر الدوق في البندقية

هذا النقص لدى الانطباعيين أظهر للوجود أعمال الفنان سيزان والذي يعتبر من قبل معظم النقاد أبو الفن الحديث، والذي بفضله أخذ لفظ "الشكل" أو "القالب" مكانة جديدة أصبح بفضلها هو الأصل في تسمية النظرية الشكلية، حيث أخذ على عاتقه أن يعيد للرسم متانته وصلابته، فالناس والأشياء في لوحاته لها متانة حقيقية ويستخدم اللون للتعبير عن ثقل الأشياء أو تكتلها دون أن يؤثر ذلك على العمق الكبير الذي تتسم به لوحاته، فنستطيع أن نميز في أعمال سيزان "تجاوبا إيقاعيا بين العلاقات المكانية حيث تنتقل عين المشاهد على المسطحات المتداخلة على سطح اللوحة لتعطي شعورا بالإيقاع والتوتر" على حد تعبير الناقد الفني "روجر فراي". هذه العلاقات التشكيلية بين الكتل المصورة تؤلف جزء من معنى الشكل أو القالب للعمل الفني، وكان سيزان لتحقيق هذه العلاقات الشكلية يلجأ إلى تحريف واضح للعناصر المراد تصويرها تلبية لحاجات التصوير وأيضا كخطوة نحو الإقلال من أهمية الموضوع المراد تصويره، فمن أهم أعماله الفنية لوحات تصور موضوعات قليلة الأهمية في الواقع كالفواكه وأكواب الماء على سبيل المثال.

لوحة لاعبي الورق للفنان سيزان

وعليه فإن النزعة الشكلية في الفن الحديث تتبنى فكرة أن قيمة العمل الفنية تتمثل بالتنظيم الشكلي للعناصر المصورة من خط وكتلة ومسطح ولون، ومنها تولدت فكرة الاستقلال الذاتي للفن، فالفن لا يعتمد على الحياة ولا يعد مسؤولا أمامها وإنما له قيمه وفردانيته الخاصة به.

هذه الفكرة دفعت أجيالا من الفنانين للتخلص تدريجيا من المحاكاة على حساب الشكل إلى أن تخلصوا نهائيا من جميع آثار التمثيل، فالقيم التشكيلية واللونية للتصوير بنظرهم لا يمكن أن تستغل على أكمل وجه إلا عندما يتحرر الفنان من محاولة مشابهة الواقع، وفي هذا يقول كاندنيسكي: "إن الفنان يحرر نفسه من الموضوع لأن هذا الأخير يحول بينه وبين التعبير عن نفسه". أو كما يقول مؤرخ الفن "فنتوري" إن "الهدف التقليدي للفن الغربي (المحاكاة) قد نبذ لصالح (الخلق)".

وهنا لا بد من التنويه إلى أن نقاد الفن الذين تبنوا النظرية الشكلية كنظرية كافية لتقييم الأعمال الفنية جماليا وأبرزهم "كلايف بل" و"روجر فراي" لا ينبذون العمل التمثيلي المحاكي لموضوعات الحياة بشكل كامل بل هم يصنفونه كعمل فني فقط إذا كان يحمل القيم الشكلية والتشكيلية التي تبنوها.

ما هي هذه القيم وكيف نستطيع ملاحظتها في العمل الفني؟

يحدد "فراي" عناصر التصميم والقيم الجمالية هذه بأنها الخط والكتلة والنور والظل واللون ، فاللوحة أو العمل النحتي لا يكون عملا فنيا من وجهة نظره إلا عندما ترتبط هذه العناصر فيما بينها، على نحو يتصف بما يسميه "بل" (الشكل ذي الدلالة).

وعند سؤاله عن معنى هذه العبارة قال بأنها العلاقة الشكلية التي تثير عند المشاهد المنزه عن الغرض "انفعالا جماليا"، وهذا الانفعال "من نوع فريد".  

كان هذا مختصرا لأهم أفكار هذه النظرية والذي من خلاله يتم تقييم وفرز الأعمال الفنية بين جيد ورديء.

وكان لهذه النظرية أثر واضح على شريحة لا بأس بها من جماهير الفن، فبسبب ما أثارته من جدل لم يعد الكثير من الناس يجد الفن الحديث شاذا أو مضحكا، ونستطيع القول إنه إن لم يصبح مفهوما تماما فإنه على الأقل أصبح مقبولا، وأصبح يرتكز على أرض ثابتة.

ولكن وعلى الرغم من تأثير هذه النظرية لنا أن نتساءل: "هل هذه النظرية صحيحة تماما؟ وهل حقا يمكننا اعتمادها لتقييم أي عمل فني جماليا؟ وهل يمكننا اعتمادها كأساس للنقد الفني؟

إشكالات النظرية الشكلية

إن أكثر ما يعيب النظرية الشكلية للنقد الفني الجمالي هو الغموض الذي يكتنف المصطلحات الرئيسية لهذه النظرية والتي تعتبر إلى حد كبير غير مفهومة تماما كما هو الحال في مصطلح (الشكل ذو الدلالة) كسمة موضوعية وأساسية للعمل الفني، وحتى إن كان مفهوما إلى حد ما فهو يحتمل أوجهاً عديدة للتأويل كل حسب رؤيته، ونجد أيضا أنه كلما حاول "بل" أن يقدم تحليلا مرضيا فإنه يفشل تماما، فعندما يقول أن الشكل ذو الدلالة هو العلاقات الشكلية التي تثير انفعالا جماليا لا يقدم فهما واضحا بل على العكس فهو يأخذنا للتساؤل ماهو الانفعال الجمالي؟ فيقول: "هو انفعال خاص مختلف عن انفعالات الحياة الواقعية...".

ودون المزيد من الخوض في اشكالات المصطلحات الفلسفية الخاصة بهذه النظرية فإنه من الواضح أن عدم وجود معايير ثابتة وواضحة وقابلة للقياس فإن الكثير من النقاد لا يتبنى هذه النظرية لنقد وتقييم مدى جودة الأعمال الفنية.

وبنفس الوقت لا نستطيع أن ننكر الجهد الكبير الذي بذله هذان الناقدان في تحليل واستبصار عدد كبير من المدارس الفنية وأبرز الأعمال الفنية لكل مدرسة.

وختاما، نستطيع القول إن هذه النظرية كان لها أثرها الواضح على مسيرة وتطور الفن التشكيلي الحديث ولكن لا يمكننا اعتبارها كافية ووافية لنبني على أساسها فهما دقيقا للأعمال الفنية الحديثة، فنستطيع أن نقول إنها تقدم لنا جزءا من الحقيقة ولا تقدم لنا الحقيقة كاملة، وهي تستطيع تقييم جزء من الناتج الفني ولكنها تعجز عن تقييم الجزء الأكبر، ونقول أيضا إنها كانت سليمة ومفيدة إذ أنها لفتت الأنظار إلى سمات كامنة في الأعمال الفنية كان يتم تجاهلها أو يساء فهمها.