مئوية الجامعة السورية

2023.06.19 | 06:16 دمشق

مئوية الجامعة السورية
+A
حجم الخط
-A

في 15 حزيران 1923 أصدر صبحي بركات، رئيس اتحاد الدول السورية كما كان يوصف وقتئذ، مرسوماً بمنح الجامعة السورية شخصية اعتبارية واستقلالاً مادياً، وافق عليه المفوض السامي الفرنسي.

لم يكن هذا مولداً لجامعة دمشق فحسب، التي تحتفل هذه الأيام بمئويتها بما أنها الوريث المباشر للجامعة السورية، بل كان ميلاداً للتعليم العالي السوري المنظم؛ إذ إن جامعة دمشق لم تستقل باسمها هذا إلا في السنة الأولى للوحدة مع مصر، عند تأسيس شقيقة لها في حلب وبدء تفرع الجامعة السورية إلى شجرة.

في مناطق النظام اليوم سبع جامعات حكومية، وقرابة 24 خاصة، غير أن الأمر لا يقف فقط عند التوسع الكمي الكبير، بل يتجاوزه إلى القيم المؤسِّسة والمستوى الأكاديمي والمنهجي والبحث العلمي.

فقد قامت الجامعة السورية على المعهد الطبي العربي ومعهد الحقوق العربي بصورة رئيسية أولاً، ضمن رؤية عدد من بناة الدولة لإنشاء المؤسسات الوطنية من دون أخذ واقعة الانتداب على نحو معطّل. وتوسعت الجامعة ببطء من دون أن تفقد أفقها النهضوي وانضباطها العلمي. وإلى درجة ما ظلت مؤسسة نخبوية من جهة المدرّسين والطلاب الذين لم يكن عددهم كبيراً مع صعوبة وصول أعداد كبيرة من الفقراء وسكان المدن الأخرى والأرياف إلى الدراسة فيها لأسباب متعددة. حتى جاء عصر الجماهير الذي أطلقته الوحدة مع مصر الاشتراكية، ثم عززه حكم البعث.

بعد شهر من استيلائه على السلطة أسس حزب البعث منظمة «الاتحاد الوطني لطلبة سوريا» التي هدفت إلى وضع الطلاب تحت هيمنته. ثم فرض مقّرر «الثقافة القومية الاشتراكية» على الكليات والمعاهد، و«التدريب الجامعي» العسكري على الذكور

وإن هدفت هذه التوجهات إلى تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص التعليمية والتوظيفية، فإن ذلك لم يحصل دون أعراض أكبر من أن توصف بأنها جانبية على مسار التعليم.

فبعد شهر من استيلائه على السلطة أسس حزب البعث منظمة «الاتحاد الوطني لطلبة سوريا» التي هدفت إلى وضع الطلاب تحت هيمنته. ثم فرض مقّرر «الثقافة القومية الاشتراكية» على الكليات والمعاهد، و«التدريب الجامعي» العسكري على الذكور، ومنح اليافعين المنتمين إلى «اتحاد شبيبة الثورة»، الذين اتبعوا دورات في القفز المظلي أو التدريب على استخدام السلاح (الصاعقة) علامات إضافية للمنافسة على دخول الجامعة، مقابل استعدادهم للمشاركة، كقوات رديفة، في صراع حافظ الأسد مع الإسلاميين.

كما شهدت تلك المرحلة غياب آخر جيل من الأساتذة المهيبين، بالتقاعد أو التضييق حتى السفر إلى الخارج وربما الاعتقال، والاستعاضة عنهم، تدريجياً، بالعائدين من الدول الاشتراكية غالباً، بعد منحٍ خارجية كانت تشرف عليها القيادة القطرية وتخضع لتقييمات سياسية. انحدر على أيديهم مستوى التعليم، وتحولت الجامعات إلى معامل بليدة لإنتاج حملة الشهادات ممن غصت بهم المدرجات والمدن الجامعية الموازية، وزادت حالات الفساد المالي والأخلاقي ببيع المواد وتسريب الأسئلة.

في مطلع عهده حاول بشار الأسد، بدافع من هاجس «التنمية»، إصلاح حقل التعليم العالي الذي ورثه عن أبيه. لكن ذلك، مثل كثير من قرارات «الرئيس الشاب»، صبّ في خانة عدد من أبناء المسؤولين الذين جمع آباؤهم ثروات من القطاع العام. فأنشؤوا جامعات خاصة أعادت التعلّم فيها إلى أن يقتصر على طبقات معينة قادرة على دفع الأقساط الباهظة، بمعايير البلاد حينئذ، ومستتبعاتها من حياة طلابية ليست في متناول الأكثرية.

عندما اندلعت الثورة عرف النظام أن الوقت لم يعد مناسباً للتجمّل، فزجّ بمنظمة «الاتحاد الوطني لطلبة سوريا» في مواجهة المحتجين داخل الجامعات وخارجها، ورفع من مستوى تنسيق قياداتها المحلية مع المخابرات التي استباحت الجامعات، فضربت الطلاب وسحلتهم واعتقلتهم وربما قتلتهم، في حين كانت عينها اليسرى على الأساتذة لتفتش في حركاتهم وسكناتهم عن علامات تعاطف مع الاحتجاجات، وما يتبع ذلك من استدعاء لا يعلم خاتمته إلا الله.

بعد اثني عشر عاماً على «الأزمة» وصل التعليم العالي في ظل النظام إلى أسوأ حالاته. فقد غادره عدد وافر من أساتذته بعد عسكرة الحرم الجامعي، ولأسباب تتعلق بالبحث عن الرزق والتمتع بحد مقبول من الخدمات في دول أخرى. وهجره عدد كبير من طلابه الذين نزحوا أو لجؤوا إلى الخارج. وتجمّد الكتاب الجامعي عند سوية متقادمة إذ لم تعد الظروف مواتية لتجديده، فهو كان هزيلاً بالأصل. وانهارت علاقات الجامعات الرسمية بالمجتمع العلمي في الغرب، في حين تعززت صلاتها مع أكاديميات روسيا وإيران والصين وسواها من دول حليفة.

من جهة أخرى كان عدد متزايد من الطلاب قد امتنع عن متابعة دراسته الجامعية منذ 2011 بسبب الملاحقة أو الخوف، وتبعهم عدد من الأساتذة المتحدرين غالباً من المناطق الثائرة التي خرجت عن سيطرة النظام في 2012. وفي العام التالي 2013 أجرت المعارضة السورية أول امتحانات للشهادة الثانوية في هذه المناطق. وكانت الخطوة اللاحقة هي بدء تأسيس الجامعات «الحرة» عام 2015، لتتيح للمنقطعين متابعة دراستهم، وللأساتذة فرصة العمل والاستفادة من إمكاناتهم، وللناشئين أفقاً بمتابعة الدراسة لأن شهاداتهم الثانوية ممنوعة من الصرف.

عبر السنوات زاد عدد الجامعات في هذه المناطق، وتركّز في اثنتين تعدّان «رسميتين»؛ الأولى «جامعة حلب في المناطق المحررة»، ومقرها اعزاز، وهي الأقدم، وتتبع وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة التي شكّلها الائتلاف الوطني المعارض، والثانية «جامعة إدلب»، وهي الأكبر، وترتبط بحكومة الإنقاذ السورية، الذراع المدني لـ«هيئة تحرير الشام». بالإضافة إلى عشر جامعات خاصة تقريباً، متباينة السيرة ومختلفة الأحجام.

نشأت هذه التجارب على أيدي مجموعات صغيرة من الأكاديميين المنشقين الذين خاضوا طرقاً وعرة لبنائها في ظروف حربية ضاغطة عنوانها انعدام الأمن، ونقص من الأموال بسبب توجه الدعم إلى الإغاثة والصحة والتعليم الأولي، والأنفس؛ الكادر المؤهل الكافي عددياً لتغطية كل الاختصاصات، والثمرات؛ البنى التحتية من قاعات ومخابر وتجهيزات.

لكن هذا لا يعفي القابضين على الجمر، من أساتذتها وإدارييها، من المساءلة عن الطريقة التي يستثمرون بها آمال الطلاب الذين بلغ عددهم الإجمالي أكثر من ثلاثين ألفاً اليوم، لم يستطيعوا التفرغ للدراسة وتأمين القسط الجامعي والسكن والتنقل إلا بجهاد مضنٍ.

جرى قبول مدرّسين بشهادات لا تتمتع بصدقية موثوقة، وتسليمهم مناصب وموادَّ ليسوا مؤهلين لتدريسها بدافع المحسوبية، وسوى ذلك من أنماط الفساد الإداري في أبحاث الدراسات العليا

فمن الملاحظ أن النزعة الرسالية التي واكبت تأسيس هذه الجامعات انحسرت، لدى كثيرين، إلى مجرد أداء بيروقراطي لعمل وظيفي ربما تغلب على أجوائه المنازعات الشخصية والتنافس بدل محاولة تقديم كتب دراسية جديدة أو تطوير أسلوب التلقين الموروث من جامعات النظام. وجرى قبول مدرّسين بشهادات لا تتمتع بصدقية موثوقة، وتسليمهم مناصب وموادَّ ليسوا مؤهلين لتدريسها بدافع المحسوبية، وسوى ذلك من أنماط الفساد الإداري في أبحاث الدراسات العليا. وتتم تغطية هذه العيوب بالصوت الصارخ الذي يدأب على تكرار شعارات الثورة والدين ومظلومية الداخل.

تظن بعض إدارات هذه الجامعات أن الحصول على الاعتراف، وهو الهم الرئيسي للجميع، جزء من العملية السياسية فقط، فإن جرى تغيير منشود في نظام الحكم في سوريا فسيحصلون تلقائياً على تصديق مرجعية التعليم العالي الجديدة، ولذلك يمررون أنواعاً من العبث الأكاديمي. والواقع أن المؤسسات الدولية المعنية، حين ستنظر في ورقيات هذه الجامعات، لن تعتمدها بناء على اعتراف سلطة سورية جديدة مأمولة فقط، وإنما بناء على معايير يجب أن تتوافر في الهيئة التدريسية والمناهج وجودة التعليم ومخرجاته التي تتم مراقبتها لسنوات. وسيدفع الخريجون ثمناً باهظاً نتيجة تصرف بعض الإدارات بشكل غير مسؤول.