ليس هناك فروسية عند جاسوس

2019.04.29 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا يمكن لجاسوس أو مخبر أن يكون فارساً؛ لأن الجاسوسية تستلزم السترة، والفروسية تستلزم العلنية. ليس هناك فروسية عند جاسوس أو مخبر، حتى ولو أصبح رئيس دولة تمتلك سلاحاً نووياً وأساطيل. طبيعة عمله تفرض عليه أن يخفي هويته وعمله. يضطر للكذب، وحتى للقتل أحياناً. وشرط ذلك ألاّ يكون مكشوفا. ولكن أن يكذب علناً، ويقتل علناً، فلا بد أن يكون قد حَدَث خللٌ في العالم، الذي يعيش فيه، جعل ذلك ممكناً، وربما مباحاً؛ أو جزءاً من تحقيق الذات؛ ربما لنيل نكهة الفروسية. من هنا تجد شعبية السيد فلاديمير بوتين مرتفعة في روسيا كـ "قيصر" جديد ... "فارس" يريد أن يعيد لروسيا أمجاد القيصرية، أو على الأقل أمجاد الاتحاد السوفييتي. المفارقة في هذه المسألة أن السرية - التي استلزمت أحياناً الكذب والقتل، وكانت مصدر قوة- تصبح علامة ضعف وهزيمة؛ عند تحوّلها إلى حالة علنية.

ما فعله السيد بوتين في "غروزني" و "القرم" و "جورجيا" و "سوريا" أوهَمَه أن شعبيته أصبحت في العلالي عند الروس. ربما يكون ذلك عند المغلوبين

في القضية السورية، ندرك أن السيد بوتين مأزوم، حيث يجد نفسه مضطراً إلى شراكة مع تركيا مستغلاً ارتباك علاقتها مع الغرب

على أمرهم فقط بسبب حالة إعلامية طاغية في تأليهه يسيطر عليها بالمطلق كنظام دكتاتوري متخلف. القوي لا يقدّم أوراق اعتماده لأوروبا أو أمريكا أو لإسرائيل؛ ولا هو مضطر أن يكذب ليغطي فشله بالتصرف كدولة قوية لها وجودها في الساحة العالمية قادرة على حل مشكلات العالم.

في القضية السورية، ندرك أن السيد بوتين مأزوم، حيث يجد نفسه مضطراً إلى شراكة مع تركيا مستغلاً ارتباك علاقتها مع الغرب، ومعتقداً أن بإمكانه أن يسحبها إلى حلف معه؛ وفي الوقت ذاته إلى شراكة مع إيران مستغلاً عزلتها نظراً لمسلكها التخريبي في محيطها، وكي يتقاسم معها جرائم يرتكبانها في سوريا. كما ندرك أن الجزء الأكبر من أزمته يكمن بعدم قبول الغرب أوراق اعتماده، حتى ولو نبش رفات كوهين، وأعاده إلى الربيبة إسرائيل، أو ترامى عند أقدامها، وعبّر عن صداقته معها.

في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا "بقيادته الأمنية الحكيمة"، وبعد تباهيه باستخدام أكثر من ثلاثمئة صنف من الأسلحة المميّزة بتأثيرها وفاعليتها في سوريا، وبعد المحاولات الفاشلة لتسويق تلك الأسلحة، وبعد أن فشل مبعوثوه في إعادة منظومة الاستبداد الأسدية إلى الجامعة العربية، وفشله في إقناع دول العالم بإعادة إعمار ما دمّرته تلك المنظومة، أو بإعادة مّن شردتهم من السوريين، وعدم قدرته على الفوز بأي جنى مادي أو سياسي.... بعد كل ذلك تراه يعود إلى عقلية ومسلك الجاسوس أو المخبر الذي ليس أمامه إلا الكذب والتجني وإخفاء الحقائق والبحث عن الذرائع للتغطية على مهمته أو على الفشل بإنجازها.

آخر ابداعات السيد بوتين أتت في مؤتمره الصحفي في بكين أول أمس، حيث قال إنه لا يستبعد إجراء عملية عسكرية في إدلب، ولكن "يخشى على حياة المدنيين والوضع الإنساني هناك". يبدو أن الانفصام عن الواقع أو مجانبة الحقيقة مسألة معدية أيضاً. فكما هو نظام بشار الأسد لم يرَ للآن أن نصف السوريين تشردوا، ونصف البلد قد دُمِر؛ وأن ما يقارب المليون سوري قضوا بسببه؛ كذلك السيد بوتين لا يرى أن القصف على المنطقة التي يهددها لا يتوقف، وأن طائراته ذاتها لا تغادر سماء تلك المنطقة. أما بخصوص خشيته على المدنيين و"حرقة قلبه" على الوضع الإنساني هناك؛ فمَن فعل بغروزني وسوريا ما فعل، عندما كانت طائراته تستهدف الأسواق والمشافي والمدارس، لا يمكن أن يعبأ لحياة إنسان.

الأطرف في حديث السيد بوتين في مؤتمره الصحفي كان إشارته إلى "انتصار الأسد"، وأن المعارضة هي التي تعرقل إعلان اللجنة الدستورية، ونظام الأسد لا يعرقلها. بداية لو أن بوتين ذاته انتصر، لما كان مأزوماً بهذا الشكل؛ من جانب آخر، كيف يكون الأسد انتصر، وهو لا يذهب لـ "قضاء حاجة" إلا بإذن إيراني أو روسي؟! كيف يمكن لمن انتصر أن يُشحَن خلسةً مرة إلى روسيا وأخرى إلى طهران؟ كيف لمن انتصر أن يكون شغله الشاغل بيع البلد أو تأجيره ليبقى على كرسيّه؟! أي انتصار هذا وسوريا مستباحة بالمطلق وبإشراف روسي؟! ولكن، إذا كان السيد بوتين يعتبر أن آلة حربه مكنته من احتلال سوريا، فعليه أن يقر بأنه محتل انتصر

هذه ليست المرة الأولى التي يتهم فيها السيد بوتين المعارضة بعرقلة اللجنة الدستورية أو غيرها من الإجراءات التي يعتبرها أدوات في احتلاله لسوريا

على شعب أعزل بأداته الحربية وبمعاونة و"قوادة" أداته في دمشق؛ وهنا لا بد أن يتوقف عن اعتبار نفسه وسيطاً في حل سياسي لسوريا.

الواضح أن السيد بوتين من خلال اتهامه المعارضة بعرقلة اللجنة الدستورية أنه يعتبر حتى تشكيل اللجنة الدستورية وأي بند آخر في القرارات الدولية أداة من عملياته العسكرية وجزءاً من "انتصاره وانتصار" من يحميه في دمشق؛ ومن هنا فهو يرى أن تلك اللجنة لا بد أن تكون مفصلة على قياس المحمي في دمشق، وحسب مصالح "المنتصر" في موسكو. هذه ليست المرة الأولى التي يتهم فيها السيد بوتين المعارضة بعرقلة اللجنة الدستورية أو غيرها من الإجراءات التي يعتبرها أدوات في احتلاله لسوريا. قبل أشهر صرّح السيد بوتين أن المعارضة "لم تسلم قائمة أعضائها في اللجنة الدستورية؛ أما النظام فقد قام بذلك". وكانت الحقيقة أن المعارضة قد سلّمت قائمتها قبل أسابيع من حديثه؛ والنظام كان فعلاً قد سلمها لموسكو، ولكن ليس للأمم المتحدة، كما هو مفروض.

يوماً بعد يوم يثبت السيد بوتين أن الطبع يغلب التطبع؛ فمهما حاول أن يخرج من عقل وسلوك العامل في الـ "كي جي بي" في ألمانيا؛ وأن يتمثّل دور رئيس دولة كانت يوماً قوة عظمى- وتطمح أن تعيد ذلك الحلم ـ إلا أن الوقائع والأحداث والسلوك والظروف لا تسعفه في الخروج من ذلك الثوب. المصيبة أن المهمة أصبحت مكشوفة وعلنية؛ ولم يعد الكذب والقتل مستورا.