icon
التغطية الحية

"لوموند" تسلّط الضوء على مقابر الأسد الجماعية في سوريا

2022.07.28 | 22:50 دمشق

جماعي
مقبرة جماعية في منطقة القطيفة بدمشق (Maxar Technologies
ترجمة وتحرير موقع تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

سلطت صحيفة "لوموند" الفرنسية الضوء على المقابر الجماعية التي أخفى فيها نظام الأسد جثث ضحايا القمع والوحشية، وذلك من خلال تقرير أجرته الصحيفة في العاصمة الألمانية برلين على ضوء لقاء جمعها بشخصين سوريين كانا مكلفين بدفن جثث أولئك الضحايا في مقابر جماعية على أطراف العاصمة دمشق.

ووفقاً للتقرير، فإن نظام بشار الأسد كان يتقن كيف يتعامل بكفاءة منذ بداية الثورة السورية، في آذار 2011. ليس مع طرق وأساليب القتل وحسب بل أيضاً مع طرق التخلص من الجثث. فالجثث دائماً تمثّل مشكلة حقيقية للأنظمة الشمولية.

ومن خلال القصتين الموجعتين اللتين جمعت "لوموند" تفاصيلهما، أصبح من الممكن فهم الطريقة التي دفن بها النظام السوري سراً جثث عشرات الآلاف من الضحايا، الذين قتلوا في السجون ومراكز التحقيق، سواء لخروجهم في المظاهرات أو ممن تم القبض عليهم في المعارك، أو حتى الذين ماتوا نتيجة إصاباتهم، وهم في الأساس مدنيون -ليسوا مقاتلين- ممن علقوا في آلة الموت التي بدأت في عام 2011 بهدف منع وسحق الثورة التي طالبت بإسقاط النظام.

ويشير التقرير أن الشخص الأول هو الذي أُطْلِقَ عليه لقب "حفار القبور" لأسباب أمنية، وكانت وظيفته الإشراف على عمليات الدفن السرية في مقابر جماعية على رأس فريق صغير مكون من نحو خمسة عشر شخصًا، وعمل من سنة 2011 حتى نهاية سنة 2017، ودُفنت عشرات الآلاف من الجثث أمام عينيه.

والشخص الثاني، فكان يقود جرافة، وكان مسؤولًا عن حفر المقابر الجماعية، ودفع الجثث فيها أحيانًا بشفراتها، وأدى هذه المهمة منذ صيف 2011 إلى صيف 2012، قبل أن يُسجن لأكثر من سنة بقليل، وأطلق على هذه الشخصية اسم "السائق"، وقد تقابل الرجلان في دمشق، حيث كانا يعملان في الموقع ذاته، لكنهما لم يلتقيا منذ انتقلا إلى ألمانيا. ومع ذلك، فإن قصتيهما تتفقان وتكملان بعضها البعض بشكل مثالي.

"حفار القبور" كان قد أدلى بشهادته في المحاكمة التاريخية التي جرت في كوبلنز، والتي حكم القضاء الألماني في نهايتها على العقيد السابق لأمن الدولة السوري أنور رسلان بالسجن المؤبد بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية"، والرقيب الأول إياد الغريب بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف، فيما يعيش سائق الجرافة متخفيًا، ولم يتم الاتصال به من قبل أي سلطة قضائية أو دبلوماسية، ولم يتخذ أي خطوات، في الوقت الحالي، للإدلاء بشهادته في مكان رسمي.

بدايات "حفار القبور" و"السائق"

وينقل التقرير عن "حفار القبور" أنه في سنة 2011 (كان يبلغ من العمر 36 سنة) كانت وظيفته ملء استمارات في مكتب خدمات الجنازات في بلدية دمشق، القسم المسؤول عن إدارة المقابر.

ويقول "الحفار" إنه في أحد أيام الربيع، سقط عشرات القتلى في الشوارع، وزار ضباط الجيش رئيس مكتب الدفن، وطلبوا منه أن يأتي معهم، وبالطبع لم يستطع أن يرفض تعليماتهم. وبعد أيام قليلة، جاء دوره ليتم استدعاؤه من قبل مشفى حرستا العسكري، حيث أوضح أنه تم أخذه إلى مقبرة "نجها"، حيث كان هناك عدد قليل من الشاحنات المبردة التي تحتوي على الجثث، وكان الجنود ينزلون الجثث، وأثار ذلك المشهد صدمة الموظف، وخلال دورته الثالثة في المقبرة، أرسل الضابط المسؤول عن العمليات أمرًا جازمًا لرئيسه في مكتب الدفن بتوفير فريق من الموظفين ليحلوا محل الجنود، وقد اختاروا خمسة عشر عاملًا.

"سائق الجرافة"، ألقي هو الآخر بدون سابق إنذار في دوامة الحرب والقمع، حيث كان عمل هذا الرجل -حتى قيام الثورة- يتمثل في تدمير المباني غير القانونية للإدارة المحلية في دمشق. وفي آب 2011، كلفه رئيسه بمهمة خاصة، فقد كان الحرس الجمهوري يحتاج إلى جرافة لتدمير الخنادق والحواجز المقامة في حي بساتين الرازي الذي يسيطر عليه مقاتلو المعارضة خلف السفارة الإيرانية، وعندما وصل إلى هناك، توقف القتال، وفر مقاتلو المعارضة، ولم تبق سوى جثث المدنيين، فأمره الجنود بالتخلص من كل شيء، بعد أن ألقوا بالجثث في شفرة الحفارة، وكانت هناك تقريبا من 70 إلى 75 جثة، ثم أُمر بحفر حفرة وإلقائهم فيها.

"رائحة كانت لا تطاق"

ولفت التقرير إلى أن النظام كان منذ البداية يتبع مسارًا لا ينحرف عنه أبدًا، وهو التخلي عن الجثث فورًا، حيث يقول حفار القبور إنهم قاموا في البداية بحفر قبور فردية، ووضع ما يصل إلى ستة أو سبعة جثث فيها، لكن عدد القتلى استمر في الارتفاع، وبدأت شاحنات التبريد تصل ممتلئة بالجثث بالكامل، وكان هناك ما يصل إلى 400 أو 500 جثة في المرة الواحدة. لذلك، كان عليهم حفر مقابر جماعية. وفي هذه المرحلة استدعت السلطات سائق الجرافة، ففي أيلول 2011، تم إرساله إلى مقبرة نجها، وطلب منه أن يحفر حفرة لأعمق ما يمكن.

ويتابع التقرير وصف المشهد فيقول: في نهاية فترة ما بعد الظهر، وصلت سيارة مرسيدس سوداء، تلتها شاحنتا تبريد وحافلة صغيرة نزل منها سبعة عمال جنازات، وكان حفار القبور واحدًا منهم، ثم أمر الضابط أول شاحنة تبريد بالنزول إلى أسفل منحدر ترابي للاقتراب من الحفرة. وأثناء إمالة الشاحنة، تدفقت السوائل من الخلف، والتي كانت عبارة عن دم مختلط بالماء القذر والفضلات، وقد تطلب الأمر عدة رجال للدخول إلى الشاحنة لسحب الجثث المتلاصقة، ثم طُلب من السائق دفع الجثث في الحفرة بشفرات الجرافة، وفي تلك الليلة دفن ما يتراوح من 400 إلى 500 جثة.

تكرر المشهد من مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، وفق ما نقل التقرير. وفي بعض الأحيان كان من الضروري استخدام الجرافة لأن الأرض كانت صخرية. ويقول السائق إنهم كانوا يحفرون في كل مكان، وأحيانًا لم يستطيعوا تذكر المكان الذي دفنوا فيه الجثث فأعادوا فتح الحفر، وأثناء سؤاله عن المدة التي سوف يستغرقها هذا العمل، أجابه الضباط :"حتى تقاعدك أو ربما بعده"، وقد كان ذلك حلال الشهر الأول له في ذلك العمل.

التخلص من الجثث في شاحنات القمامة

وفقًا لحفار القبور، فقد حفرت قوات النظام خنادق بعرض 2.5 إلى 3 أمتار، ويمكن أن يصل طولها إلى 150 مترًا، وهذا ما يؤكده تحليل صور الأقمار الصناعية لهذه الأماكن التي رصدتها صحيفة لوموند منذ سنة 2011.

وأضاف الحفار قائلًا إن عملية الدفن مستمرة بوتيرة لا تطاق، وقد عمل أحيانًا لفترات من أربعة أو خمسة أشهر دون أن التمكن من رؤية عائلته التي كانت تعيش على بعد 15 كيلومترًا فقط، وعندما حصل على إذن، تم استدعاؤه مرة أخرى، فقد كان يقود سيارة دون لوحة مرور وكان مسلحًا، كما تم تزويد المركبة بوثائق موقعة من جميع فروع الأجهزة لتجاوز الحواجز الأمنية. وفي غضون ذلك، افتتح النظام موقعًا جديدًا في منطقة القطيفة على بعد 50 كيلومترا شمال دمشق على طريق حمص، وهو معسكر يضم عدة وحدات في نقطة إستراتيجية تقع في منطقة مرتفعة، ويقع موقع الدفن على أراضي الفرقة 13، حيث تظهر صور الأقمار الصناعية نشاطًا مستمرًا منذ سنة 2014.

الضحايا من المشافي وسجن صيدنايا

واستمرت حصيلة الضحايا في الارتفاع حتى سنة 2016. وبحسب حفار القبور، كانت الجثث في البداية تأتي بشكل أساسي من المستشفيات العسكرية الثلاثة في دمشق: مستشفى 601، ومستشفى حرستا وتشرين، ثم بدأت الجثث تتدفق مباشرة من أفرع الأجهزة الأمنية في دمشق ومنطقتها. وفي مرحلة ما، من المستشفيات المدنيّة ومراكز الشرطة. هذا دون احتساب السجناء المحكوم عليهم بالإعدام في سجن صيدنايا، وقد تبيّن أن أجهزة المخابرات الجوية نفسها قامت بإخلاء الجثث من مقرها بواسطة شاحنات جمع القمامة على مرأى من سكان حي باب توما وسط دمشق، فيما يذكر حفار القبور أنهم دفنوا النساء والأطفال، كما رأوا أحيانًا جثث أطفال من مستشفى الهلال الأحمر في دمشق، وكان الضباط يسمونهم "الخنازير الصغيرة". ولعل أسوأ ذكرى بالنسبة للسائق ما حلّ بطفل صغير، نسي أن يدفنه في عجلة من أمره، وفي اليوم التالي، لم يجد سوى كفنه الذي مزقته الكلاب الضالة. ومنذ وصوله إلى ألمانيا، كان حفار القبور ينام بشكل سيئ، ولم يعد يعمل، ويشعر بأنه غير مستقر نفسيًا.

مسؤولية المخابرات الجوية

ولفت التقرير إلى أن المخابرات الجوية كانت تشرف على جميع عمليات جمع الجثث والدفن، أو على الأقل تلك التي شهدها حفار القبور، حيث انتشرت المقابر الجماعية في جميع أنحاء سوريا، وفي حمص وحلب والغوطة وغيرها في المئات من المواقع.

سائق الجرافة تمكن من الفرار إلى تركيا ومنها إلى ألمانيا عبر طريق البلقان. تحدث عن اعتقاله في صيف سنة 2012 من قبل أجهزة المخابرات دون إخباره بالضبط عن السبب، وخلال عام طويل من اعتقاله مصحوبًا بالتعذيب، ظن السائق أنه من المحتمل أن ينتهي به المطاف مثل كل الذين دفنهم، ولكنه فرّ بعدها مستفيدًا من الإفراج القصير الذي حصل عليه بفضل رشوة دفعها والده، كما التحق حفار القبور في وقت لاحق، وتحديدًا في سنة 2018، بابنته في برلين التي أمنت له تصريح لم شمل، لكن شبح مهنته السابقة لا يزال يطارده، حيث قال إنه لم يتمكن أبدًا من تخيل مستوى التعذيب الذي تعرض له هؤلاء الأشخاص للوصول إلى مثل هذه الحالة، ففي بعض الأحيان كان لا يمكن التعرف على الجثث، وكانت بعض الجثث تأتي بأذن مفقودة، وأخرى مقطعة الأوصال، كما تم قطع الأعضاء التناسلية الذكرية لبعضها واقتلاع أظافر البعض الآخر، كما تحدث عن اختفاء العديد من السوريين مزدوجي الجنسية خلال سنوات الإرهاب هذه، ومنهم صحفيون ونشطاء ومعلمون وعاملون في المجال الإنساني... وهناك أيضًا الرعايا الأجانب الذين لم يسمع عنهم احد.

وأشار التقرير في نهايته إلى العفو الذي أصدره بشار الأسد في أيار لأول مرة منذ سنة 2011 عن سوريين مسجونين بتهمة (الإرهاب) في إطار البحث عن إعادة التأهيل، حيث اُلقي نحو 150 سجينًا يبدو عليهم الإرهاق والهزال على قارعة الطريق، على بعد مئات الكيلومترات من المكان الذي تم القبض عليهم فيه، مؤكدًا أنه كانت معجزة أن ينجو كل من السائق وحفار القبور من آلة الموت السورية، وهما يعيشان في تكتم ويخشيان دائمًا أن يتم التعرف عليهما من قبل مؤيدي النظام.