لماذا تقلص الزخم الشعبي تجاه اللاجئين؟

2019.06.26 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مع بلوغ موجة الهجرة واللجوء ذروتها في العام 2015، فإن الغالبية العظمى من الألمان رحبوا باللاجئين واحتفوا بهم، وكانت نشاطات وفعاليات المجتمع المدني رافدًا كبيرًا وهامًا لما قدم للمهاجرين، وليست الدولة وحدها هي التي احتضنت هؤلاء الفارين من جحيم بلدانهم فقط، بل الأفراد الذين فتحوا لهم بيوتهم وقدموا لهم يد المساعدة التي استطاعوا إليها سبيلا. وهذا السلوك لم يكن ظاهرة فردية، بل هو ينم عن ثقافة عامة يتبناها قسم كبير من الشعب الألماني، ثقافة عدم التمييز، ثقافة الحقوق، ثقافة بطلان الحدود في الإنسانية واحترام كرامة أي فرد مهما كان انتماؤه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الدستور الألماني الذي يعتبر القانون الأساسي ومصدر القوانين في البلاد فإنه يحظر كل أشكال التمييز ويضمن الحقوق والواجبات أيضًا.

لم يقتصر الأمر على هذا، بل إن معظم المدن الألمانية شهدت مظاهرات عديدة ترحب باللاجئين وتدعو إلى وقف الحرب في سوريا وفي المناطق المشتعلة، وعندما ارتفع صوت اليمين الشعبوي وبدأت تقوم مظاهرات باسمه مناهضة للجوء فإن الغالبية من الشعب تصدت لهذه الأصوات وقامت بمسيرات مناهضة، عدا السجال الحكومي الذي أخذ يحتل مكانًا هامًا بين أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة، أو بين الأطراف السياسية حول قضية اللجوء واجتراع قوانين ناظمة تشدد أكثر حول قبول المهاجرين ومنحهم الإقامات أو المساعدات.

لكن ما الذي حصل وجعل هذه الاندفاعة العفوية العارمة تتراجع، وترتفع الأصوات المطالبة بتغيير سياسة اللجوء؟

بسبب الصورة النمطية المزروعة في الأذهان عن المجتمعات الغربية فإن اللاجئين والمهاجرين يجنحون نحو التجمع "الهوياتي" والانغلاق في أحيائهم

إن غالبية اللاجئين لم يستطيعوا الاندماج، أو بالأحرى قسم كبير من هذه الغالبية لم يتقبل من مفهوم الاندماج سوى تعلم اللغة لمن تفرض عليه القوانين أن يكتسب مستوى معينًا من اللغة من أجل دخول ميدان العمل، وبعض منهم اكتفى بالعمل لدى جهات لا تتطلب معرفة الألمانية، أو اشتغل بالأسود، كما يسمون العمل غير القانوني هنا، أي غير المصرح عنه. أما الاندماج كحياة في مجتمع جديد له أعرافه وطرق تنظيمه نفسه وقواعد العيش فيه، فتلك أمور لم يلتفتوا إليها، عن عدم معرفة أحيانًا، وعن قصد ونية مسبقة أحيانًا أخرى، فالعديد من المهاجرين يضمرون صورًا نمطية عن المجتمع الغربي، مثله مثل أي مفهوم آخر لا يجتهدون في التفكير أو البحث عن احتمالات أخرى غير ما تعلموه او فطروا عليه أو اكتسبوه من البيئة التي عاشوا فيها، وكل ما تلقوه يعتبر هو الصحيح، فكيف إذا كانت هذه المعرفة تخص هوية متشكلة وفق حوامل خاصة وضيقة وراسخة وغير قابلة للمراجعة؟ بسبب الصورة النمطية المزروعة في الأذهان عن المجتمعات الغربية فإن اللاجئين والمهاجرين يجنحون نحو التجمع "الهوياتي" والانغلاق في أحيائهم، بدافع الحفاظ على الهوية وحماية الأبناء من الثقافة التي يعتبرونها مناهضة لهويتهم.

لا يتعلق الأمر بهوية فقط، بل بأسلوب تربوي وأسلوب حياة، فالفرد من المجتمعات التي ينحدر منها اللاجئون، واللاجئ السوري بشكل خاص نشأ وكبر على البديهيات والمسلمات وعلى عدم فهم القوانين وجدواها بالإضافة إلى سلوك تأسس على أن القانون من السهل جدًا اختراقه بطرق عديدة، والواقع أن القانون كان مهلهلاً لشدة الثقوب الناجمة عن اختراقه، كما أن معنى العيش المشترك لم يكن مفهومًا ذا أهمية بالرغم من كل الروافع التي كانت تبنى عليها التربية وتنشئة الأبناء من موروث شعبي وتراث ثقافي وتوجيه ديني وغيرها، وترسيخ قيم يفتخر الأفراد بها، لكنها كغيرها تبقى ثيمات شعرية للتباهي كما التباهي بالنسب وتعليق شجرته في صدور البيوت، ومنها احترام الجيرة وحق الجار الذي أوصى الله ورسوله به حتى لو كان في المرتبة السابعة.

لكن العديد من اللاجئين سلكوا سلوكًا كان سببًا في انكفاء شريحة لا بأس بها من المجتمع الألماني عن اندفاعهم لمساعدة اللاجئين، فالتجاوزات التي وقعت وتقع في كل حين، عدا بعض الارتكابات التي وصلت في بعض الحالات حد الجناية أو الجريمة، تنم عن خلل كبير في العيش ضمن العصر، ليس لأن الفرد السوري تنقصه المهارة والذكاء والفطنة واللباقة من أجل العيش في العصر، بل لأنه، وهذا مؤسف حقًا، بقي لعقود خلت متروكًا لاستنقاعه في حياة راكدة مسورة بالظلم، ولم تعمل الحكومات ولا الأحزاب المناوئة لها على مر تلك العقود على النهوض بالمجتمع من استنقاعه ذاك، فلقد عملت الأنظمة السياسية على تدجين المواطنين وعهدت بالتربية إلى المنظمات الملحقة بالحزب لتقوم ببناء كوادر مشبعة بالأفكار والقيم التي ترسّخ الولاء والطاعة وتمحو الفردية بالمطلق، ترافق هذا التأهيل الموجه مع تغول رجال الدين والحركات الدعوية في نسيج المجتمع وترسيخ صور نمطية عن الحياة التي يجب أن تعاش ليكون الفرد صالحًا ومطيعًا، كما ترك المجتمع للمعايير التي تحكمه مناطقيًا بحسب العرف السائد.

الحداثة التي ليس للشعب دور في بلورتها لا يمكن أن تحدث التغيير الفارق

لذلك يمكن القول بأن الحداثة، التي تعني بأبسط تعاريفها بأنها مناقضة للماضي والقديم والتقليدي، وهي حركة نهوض وتطوير وإبداع تهدف إلى تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك، هي حركات أو تحولات اجتماعية أيضًا، لكن ما حصل أيضًا في العقود الماضية أن الحداثة كانت تفرض من الأعلى، كما هي رؤية الأنظمة الحاكمة لها لا كما يحتاج المجتمع للنهوض والتحرك من حالة الاستنقاع، الحداثة التي ليس للشعب دور في بلورتها لا يمكن أن تحدث التغيير الفارق، فكانت النتيجة أن شريحة كبيرة من الشعب السوري الذي هجرته الحرب ودمرت بيوتهم وماضيهم وبددت مستقبلهم، يعانون في بلدان اللجوء، خاصة الأوروبية من الشرخ المجتمعي الحداثي بأبسط تجلياته.

من الأمثلة البسيطة لكنها الدالة ببلاغة عن سلوك هذه الشريحة التي تقدم صورة تشعر المجتمع المضيف بالقلق والخوف على حياته ومكتسباته التي تحققت بنضال طويل وتجارب تاريخية مريرة، أن يصل الأمر بإحدى السيدات الألمانيات لأن ترفع دعوى على قاطني مخيم لللاجئين مقابل سكنها، حيث لا تستطيع فتح نافذة غرفتها بسبب الصخب والضجيج والأصوات العالية والغناء الصاخب والرقص والدبكة ودخان النراجيل، اضطرت إلى اللجوء إلى القضاء لأن التنبيهات الشفهية لم تؤخذ على محمل الجد. وحادثة أخرى أيضًا، لا يمكن أن تخطر على البال، حيث قام البعض بإطلاق عيارات نارية في عرس سوري في إحدى المدن الألمانية مما جعل الرعب يدب في الجوار، وتتأهب الشرطة خوفًا من احتمال عمل إرهابي. هذه نماذج من تفاصيل بسيطة لكن التفاصيل البسيطة هي التي تشكل الحياة.

يستهتر بعض السوريين بالقوانين في بلدان اللجوء، لأنهم لم يعيشوا تجربة سيادة القانون في بلدانهم، فهو بالنسبة إليهم مفهوم ضبابي وربما غيبي مطواع وسهل الاختراق، لا يبالون بحق الجوار، لذلك من الصعب إقناع بعضهم بأن القانون هنا يضبط سلوك الأفراد بأدق تفاصيله في بلد القانون، ولم يعرف الفرد السوري معنى المواطنة لأنه عاش عقودًا مغيبًا عن ذاته مهدور الحقوق مقموعًا ممنوعًا من الكلام والتعبير، عاش كما لو أنه فرد من قطيع، فلم يتعلم مفردات الحياة المشتركة، وأن للآخر مثل ما أملك من حقوق ومن نصيب في كل ما هو مشترك.
بالرغم من أن هناك التماعات مضيئة يحدثها السوريون وخاصة الشباب منهم في هذه المجتمعات، إلاّ أن هذه السلوكيات التي يقوم بها البعض منهم، وهم كثر، تزيد في تراجع الزخم الذي كان تجاههم من قبل الشعب الألماني، وعندما يدافعون عن خصوصيتهم ومبنى حياتهم فهم يملكون الحق في ذلك.