لبنان.. بروفة الحرب الأهلية

2022.01.03 | 04:48 دمشق

temp_43547_902048_375530.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان التعاطف العربي مع مصر جارفا، وقد اجتاح الشوارع العربية بشكل جنوني، في أثناء الهجوم الإسرائيلي الفرنسي البريطاني عليها فيما عرف بالعدوان الثلاثي، فقد نزل تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس كالصاعقة على بريطانيا التي تعوّل على هذا الممر، للوصول السريع، شبه المجاني، إلى جنوب الكرة الأرضية، وكان الرئيس كميل شمعون من أوائل الرؤساء الذين دعوا إلى عقد قمة عربية، ولم ينكر حق مصر بالتأميم. تصرّف شمعون بما يتناسب مع الميثاق الوطني ودون أن يخرج عن حدوده، فقد اتخذ موقفا جيدا من قضية عربية ويكاد يكون متطابقا مع الموقف الأميركي الذي استنكر الهجوم الثلاثي على مصر.

قرر مؤتمر القمة الذي عقد في بيروت قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا تضامنا مع مصر ووقوفا إلى جانب قضيتها، وطلب رئيس الوزراء اللبناني عبد الله اليافي من شمعون اتخاذ نفس الموقف، ولكن الرئيس تلكأ بعض الشيء ثم رفض بشكل تام أن يقطع علاقاته مع البلدين الأوروبيين، اعتمد شمعون في هذه الخطوة على الميثاق اللبناني الذي يقول بأن لبنان ذو وجه عربي يحافظ على علاقات متينة مع الغرب، ولكن رئيس الوزراء اليافي قدم استقالته وانهارت الحكومة، فبدأ الرئيس شمعون بالبحث عن رئيس وزراء "سني" يقبل بالمهمة في ظل بقاء العلاقات الدبلوماسية مع كل من فرنسا وبريطانيا ووجده في شخص الرئيس سامي الصلح.

ازداد تقرب الرئيس شمعون ووزارته من الغرب بقبول مبدأ أيزنهاور الذي ينص على أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم المساعدات للبلدان التي ترغب في الحفاظ على استقلالها

تشكلت حكومة الصلح بمشاركة شارل مالك وزيرا للخارجية وهو من الشخصيات المعروفة بتأييدها للغرب، فبدا الوجه السياسي للبنان بوجود هذه التشكيلة مواليا للغرب وهو الأمر الذي لم يعد ميثاقيا أبدا.. قويت الجبهة المعارضة للرئيس شمعون واستطاعت أن تكسب مواقع قوية في الشارع اللبناني وخصوصا في الجانب المسلم، وازدادت قوة المعارضة مع انتهاء الحرب بنصر معنوي ومادي للرئيس عبد الناصر، وأمام تصعيد المعارضة، ازداد تقرب الرئيس شمعون ووزارته من الغرب بقبول مبدأ أيزنهاور الذي ينص على أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم المساعدات للبلدان التي ترغب في الحفاظ على استقلالها، وكان المبدأ موجّهاً للدول التي من الممكن أن تقع في شراك الشيوعية ومنها لبنان، واعتبر عبد الناصر أن المبدأ موجه ضد نفوذه المتعاظم في المنطقة.

استقال بعض نواب البرلمان من ذوي الأكثرية المؤيدة لشمعون، وشكلوا مع بعض الشخصيات الوطنية الأخرى تجمعا آخر، سمّي بالجامعة الوطنية، كان من أبرز أعضائه كمال جنبلاط، وأيده الرئيس السابق بشارة الخوري، من دون أن يكون عضوا فيه، فصار هناك تجمعان واحد يضم الرئيس شمعون وآخر مضاد له، يحتويان خليطا مذهبيا من مختلف الطوائف، فاتخذ التنافس شكلا وطنيا وسياسيا، بالرغم من وجود أكثرية مسيحية تؤيد الرئيس وأكثرية مسلمة تؤيد المعارضة، وكان الميثاق يقف في الوسط.

أقر مجلس النواب ذو الأكثرية الشمعونية قانونا للانتخاب في سنة 1957، بحيث تنتج  أكثرية موالية تضمن تواصل تعديل الدستور ليتمكن الرئيس من تجديد انتخابه مرة ثانية، وظلت حكومة سامي الصلح في مكانها لتراقب تلك الانتخابات التي نظر إليها الجميع بعين الريبة، وبدأت تظهر النتائج المزلزلة فسقط في الانتخابات معارضون كبار مثل عبد الله اليافي وصائب سلام واكتملت الكارثة بسقوط كمال جنبلاط، ولكن النصر الشمعوني لم يكتمل وقد نجح خصمه العنيد حميد فرنجية في الانتخابات رغم وقوع حادث إطلاق نار بين أنصار فرنجية ومنافسيه من آل الدويهي، ذهب ضحيته اثنان وعشرون قتيلا.

لم يستطع قضاء الشوف السكوت على سقوط جنبلاط فأبرز السلاح علنا وتلقى شحنات قادمة من سوريا، وتواترت الاشتباكات ما بين رجال العهد الشمعوني والمعارضة التي رفعت شعار إسقاط شمعون وكان وراءها بالطبع كمال جنبلاط.

وما جعل المناوشات المتقطعة تتحول إلى مواجهات وخطوط تماس، هو اغتيال صحفي يدعى نسيب المتني ينتمي إلى المعارضة، التي اجتمعت وأصدرت بيانا تتهم فيه الحكومة بقتل المتني ودعت إلى إضراب عام تحول إلى حرب واسعة انتقلت من طرابلس إلى بيروت ثم الشوف، وبدأت قوات جنبلاط في السيطرة على الأراضي بقوة السلاح. كان في طرابلس رشيد كرامي وفي بيروت صائب سلام أما في البقاع فكان صبري حمادة، على إثر ذلك شكل جنبلاط القوات الشعبية ولم تكن ذات طبيعة طائفية فقد انضم إليها مقاتلون من كافة الطوائف فأكمل السيطرة على الشوف وانحدر صوب بيروت عبر طريق دمشق ووقف على بعد عشرة كيلومترات منها.

فؤاد شهاب كان يشغل منصب قائد الجيش اللبناني ووقف على الحياد طوال فترة الحرب السابقة، واستطاع ضبط قواته في معسكراتها بقدر الإمكان

تمترس كل زعيم بالمنطقة التي احتلها، وانقسمت المناطق بخطوط التماس وظهرت لأول مرة بيروت الشرقية وبيروت الغربية، منقسمة ما بين مسلمين ومسيحيين يفصل بينهما خطوط لم تهدأ، وقد آثر الرئيس شمعون اللجوء إلى تدويل الأزمة ليجد لنفسه مخرجا فأرسل برقيات تتهم الجمهورية العربية المتحدة، إلى جامعة الدول العربية ومجلس الأمن، ثم طلب مساعدة من الرئيس أيزنهاور الذي لم يتوانَ عن إرسال قوات من المارينز، أُنزلت في خلدة في منتصف تموز 1958، ولكن مع نهاية شهر تموز كان مجلس النواب اللبناني يجتمع لينتخب رئيسا جديدا هو فؤاد شهاب عوضا عن شمعون الذي بقيَ على انتهاء ولايته شهران فقط، وفؤاد شهاب كان يشغل منصب قائد الجيش اللبناني ووقف على الحياد طوال فترة الحرب السابقة، واستطاع ضبط قواته في معسكراتها بقدر الإمكان، وحافظ على كيان الجيش موحدا لحماية ميثاق اختلف الجميع عليه فكوفئ بأرفع منصب حكومي وهو رئاسة الجمهورية، وبذلك وجهت ضربة ميثاقية إلى المعجبين بالغرب بإسقاط شمعون بهذه الطريقة وقبل أن يكمل مدته القانونية.