بيت السوفييت في كالينينغراد

2022.06.09 | 07:30 دمشق

whatsapp_image_2022-06-08_at_12.55.21_pm.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يمكن أن يتحول بحر البلطيق إلى ملعب صرف لحلف الناتو إن نجحت كل من فنلندا والسويد بتجاوز عقبات الانضمام إليه، عندها ستصبح جميع الدول المطلة على البلطيق دولاً أعضاء في الناتو، ويمكنها من خلال هذه الإطلالة البحرية الفسيحة أن تشرف عن قرب على حدود روسيا، التي سيقتصر وجودها على هذا البحر بمنفذين الأول شاطئ قصير يحتل جزءا من خليج فنلندا، وهذه مساحة يمكن السيطرة عليها ناريا بسهولة لوضعها الجغرافي الذي تتحكم به كل من فنلندا وإستونيا، وموطئ القدم الآخر هو شاطئ كالينينغراد، وهو فجوة جغرافية روسيّة الانتماء في قلب أوروبا، ولا تمتلك أية صلة جغرافية مع روسيا، ولكن الاتحاد السوفييتي احتفظ بها قديما كتسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن لكالينينغراد تلك الأهمية في الحقبة السوفييتية، لأنها تتوضع بين بولندا وليتوانيا وهما دولتان كانتا تدوران في الفلك السوفييتي، ولكن بعد التفكك تغير المزاج السياسي للمنطقة كلها وخسرت روسيا الكثير، فظلت تتمسك بكالينينغراد التي أصبحت تمثل لها حاليا المنفذ المريح على البلطيق.

لم يكن لكالينينغراد تلك الأهمية في الحقبة السوفييتية، لأنها تتوضع بين بولندا وليتوانيا وهما دولتان كانتا تدوران في الفلك السوفييتي

 

thumbnail_image004.png

 

تاريخيا كانت كالينينغراد إقليما ألمانياً تحت اسم كونيغسبرغ، ولد وعاش فيها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ولم يفارقها طوال حياته، ودرس ثم أصبح أستاذا في جامعتها، وما زالت تحتضن تمثالا له في وسطها، كما عاشت المنظِّرة السياسية حنة أرندت جزءا من طفولتها في هذه المدينة التي امتلكت إرثا فلسفيا مؤثرا، ولكن ستالين المنتصر في الحرب، وبعد أن اكتسحت جيوشه نصف أوروبا، أطلق عليها اسم رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق ميخائيل كالينين، وظلت تحمل هذا الاسم بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي والإرث الشيوعي، وغيرت روسيا كل أسماء المناطق والمدن والبلدات التي ظهرت في أثناء الحقبة السوفييتية إلا كالينينغراد، ففضل الروس الجدد أن يبقى الاسم ليذكر أوروبا بأن هذه المنطقة ستبقى روسية إلى الأبد طالما تحمل اسمَ شيوعيٍّ سابق كان رئيسا للدولة، وكالينينغراد لا تحمل من الإرث السوفييتي الاسم فحسب، بل فيها علامة فارقة سوفييتية الطابع والشكل والإرث ما زالت رابضة في مكان مرتفع من وسطها وهي بيت السوفييت!

 

تاريخيا كانت كالينينغراد إقليما ألمانياً تحت اسم كونيغسبرغ، ولد وعاش فيها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ولم يفارقها طوال حياته، ودرس ثم أصبح أستاذا في جامعتها، وما زالت تحتضن تمثالا له في وسطها

كانت مدينة كونيغسبرغ أول مدينة ألمانية هامة تقع في يد السوفييت عندما دارت دفة الحرب لصالح الجيش الأحمر في شرقي أوروبا، وكانت للمدينة قلعة أثرية تقع في منتصفها تماما، وقرر السوفييت هدم هذه القلعة التي تضررت خلال الحرب باعتبارها جزءا من الفاشية الألمانية، وتقرر أن يتم إنشاء مبنى ضخم متعدد الاستعمالات في مكانها يطلق عليه اسم بيت السوفييت. تم اتخاذ القرار في العام 1964، وأُعلن عن مسابقة هندسية لتقديم حلول معمارية جمالية لبيت السوفييت المنتظَر، وتمت الموافقة على تصميم خرساني ضخم يحمل شكل رأس رجل آلي بمفاهيم السبعينيات يحوي عينين وفماً ولا أثر للأنف فيه، وبمنظور الثمانينيات بدا التصميم في منتهى القبح بعينيه الصغيرتين وفمه المشقوق والشكل الخارجي الذي يوحي بالركود والموات، تألف التصميم من 28 طابقا، ورُصدت الميزانيات بالروبل الروسي لإقامة هذا الصرح مكان القلعة التاريخية التي هشمتها الحرب، ويستعاض عنها ببيت السوفييت كرمز للمستقبل الشيوعي المشرق!

 

02.png

 

بدأ العمل على المشروع في العام 1970، وبدأ صب الخرسانة في الموقع ماسحا كل أثر للقلعة، ولكن التربة المستنقعية المشبعة بالماء لم تتحمل وزن الخرسانة الهائلة فتوقف المشروع لمعالجة التربة، وتم تخفيض طوابق المبنى من 28 إلى 21، ثم استؤنف العمل من جديد، كان العمل بطيئا ومتعثرا، فما إن جاء العام 1985 حتى نفذت أموال اللجنة الشيوعية في كالينينغراد، ولم تقوَ ميزانياتها على إتمام المشروع فتوقف العمل تماما، وفقدت اللجنة الشيوعية اهتمامها بالمشروع، وظل المبنى المكون من واحد وعشرين طابقا مهجورا تلعب فيه الرياح والقطط الشاردة حتى العام 2005، حين زار فلاديمير بوتين كالينينغراد، فتلقت لجنة المدينة مساعدات عينية على شكل طلاء للجدران وزجاج للنوافذ، وتم طلاء المبنى وتركيب بعض نوافذه ليقلل القبح الذي يظهر به، ولكن المبنى عاد وطواه النسيان مرة أخرى بعد مغادرة الرئيس الروسي، وظل يقبع منفردا وسط كالينينغراد يتجول حوله بعض رجال الأمن ويحاول الأطفال الأشقياء تسلق سوره المعدني.

ظل المبنى المكون من واحد وعشرين طابقا مهجورا تلعب فيه الرياح والقطط الشاردة حتى العام 2005، حين زار فلاديمير بوتين كالينينغراد، فتلقت لجنة المدينة مساعدات عينية

يمثل هذا المبنى بتصميمه معدوم الذوق وبتاريخ بنائه المتلكئ، سيرة الشيوعية المهزومة، وقد يشابه السياسة الروسية الحالية بعد أن قررت السلطات المحلية في العام الماضي هدم المبنى الذي لم يشغله أحد، ولكن عند حلول موعد هدمه شن بوتين حربه على أوكرانيا.