كييف والميل القديم نحو الغرب

2022.03.14 | 05:11 دمشق

news-270222-ukraine.kiev_.jpg
+A
حجم الخط
-A

تشهد كييف الآن حصارا خانقا ومتزايدا، تفرضه قوات فلاديمير بوتين الراغب بجعل أوكرانيا دولة بلا هوية، تابعةً له، تفصل بين مملكته الخاصة التي يستبد بحكمها، وبين الغرب المتكتل عسكريا كحلف مدجج بالأسلحة يدعى الناتو، الحلف الذي يملك قوةً عسكرية جبارة، يقف جانبا ويكاد يقتصر دوره على الفرجة والتفجع على مصير أوكرانيا، ولا يكف عن نشر الأخبار عن قرب وقوع كييف عاصمة البلاد في يد بوتين.

لم يكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أول من فكر بالغرب كحل يبعده عن موسكو ويضعه في فلك التطور الحضاري بالمفهوم الغربي، فمنذ بدايات القرن العاشر، جرَّب فاتحٌ تختلط حياته بين الأسطورة والتاريخ يدعى أوليخ "النبي" السفر غربا، للوصول إلى عاصمة الدولة البيزنطية العظيمة.

كان أوليخ وصيا على الطفل إيغور ابن روريك ملك لادوغا الذي توفي وترك بين يدي أوليخ مملكة صغيرة تم تأسيسها للتو، أخذ أوليخ على عاتقه توطيد الحكم وتوسيع المملكة، فباشر باحتلال المدن القائمة على نهر الدنيبر ومنها وصل إلى كييف. أعجب أويخ بالمدينة وأسس فيها مقرا لحكمه وعاصمة لبلاده التي كانت تنظر بعيون طموحة نحو الغرب حيث الإمبراطورية البيزنطية، وأظهر أوليخ الكثير من الجرأة عبر مواجهات عديدة مع مملكة الخزر المجاورة، وتوقف عن دفع أية جزية لها.

قد يكون التاريخ الصرف مزعجا أو مملا، لذلك طَعَّم كتابُ الحوليات في القرون الوسطى حياة أوليخ بالأساطير، فورد أن أوليخ بعد أن جلس على كرسي الحكم في كييف التي جعلها مملكة تمتد على كامل أوكرانيا وبيلاروسيا وجزءا مهما من روسيا، سأل عرافه يوما: "كيف سأموت؟"، أجابه العراف الحاذق بسرعة وكأنه يدرك مسبقا المصير الذي سيؤول إليه هذا الحاكم: سيكون حصانك المفضل هو السبب في موتك.. لم يبدِ أوليخ أي جزعٍ من كلام العراف، بل وقف ضاحكا وأمر جنوده بأخذ الحصان نحو المراعي البعيدة وربطه هناك بحيث لا يراه مرة أخرى، ثم نظر إلى العراف نظرة الفائز وصاح به: هل رأيت أيها العراف الكاذب كيف هزم أوليخ العظيم الموت؟؟

قرر أوليخ أن يهاجم المملكة البيزنطية ويدق على باب عاصمتها المنيعة، فجمع ألفي سفينة ووضع في كل سفينة أربعين رجلا، وعبر نهر الدنيبر جنوبا نحو البحر الأسود، وأكملت سفنه الإبحار إلى البوسفور وهناك ركَّب دواليبَ على السفن وجهزها بأشرعة مناسبة وأكمل الطريق برا، بواسطة سفنه المدولبة، نحو عاصمة ليو السادس، الإمبراطور البيزنطي. أصيب الرومان بالخوف والرعب، فأغلقوا باب مدينتهم، وتركوا جيش أوليخ يعيث في الضواحي التي سيطروا عليها، وعسكروا حول أسوار المدينة التي تضج بالرعب من مصيرها المنتظر على يد أوليخ، ثم تمكن ليو السادس الملقب بالفيلسوف من عقد معاهدة سلام مع أوليخ، وألزم نفسه بموجبها بدفع مبلغ سنوي لسيد كييف، مع إعفاء سكان كييف من أي رسوم جمركية تفرضها بيزنطة، ولتجارها أفضلية في التعامل، فعاد أوليخ منتصرا مزهوا على نفس المراكب ذات الدواليب وقد غير أشرعتها القماشية بأشرعة من ذهب، لكثرة الكنوز التي أخذها من القسطنطينية.

ينكر التاريخ هذا الحصار بشكل تام ولا تأتي المدونات البيزنطية على أي أثر لغزوٍ قام به السلاف للقسطنطينية، لذلك تدخل هذه الغزوة ضمن الأساطير المكملة لشخصية أوليخ، وتأكيدا على ظَفَرِه الدائم ووصوله إلى أقاصي الغرب وفرضه الجزية على واحد من ملوك ذلك الزمان العظام، ولتكون الأسطورة ذات نهاية لائقة سأل أوليخ جنوده بعد أن عاد منتصرا من الغرب: ماذا حدث لحصاني المفضل وقد تركته منذ خمس سنوات؟ فقالوا له: بكل أسف يا مولادي فإن حصانك قد مات.. ضحك أوليخ بشدة وأحضر عرافه سيئ الحظ، وأمر جنوده بأن يعيدوا ما قالوه بشأن الحصان أمام العراف، المصر على صدق نبوءته حتى النهاية، فلم يكن من أوليخ إلا أن قال للجنود أريد أن أرى ويرى معي هذا الكذاب بقايا حصاني ليعرف بأنني خالد لن أموت أبدا. ذهب الجنود إلى حيث دُفن الحصان، ونبشوا واستخرجوا جمجمته، ووضعوها أمام أوليخ، الذي اقترب وداس بقايا عظام رأس الحصان برجله، توكيدا لاستهانته بالموت وبعرافه الكاهن، فخرجت أفعى سامة كانت كامنة في تجويف الجمجمة، وعضت بأنيابها السامة قدم أوليخ الذي احتضر أياما ومات.

نجح أوليخ في تأسيس مملكة عريضة ونجحت سلالة إيغور الطفل الذي كان أوليخ وصيا عليه، في حكم مناطق واسعة من أوروبا عاصمتها كييف، ولكن البطل فشل في اختبار الموت.. أعجب الشاعر بوشكين الذي كان منفيا بأمر الإمبراطور ألكسندر الأول، بقصة أوليخ، وكتب له قصيدة بعنوان "أغنية أوليخ الحكيم"، أظهر فيها القدرية التي تتحكم في المصائر، ويبدو أن القدر ذاته، ذا القوانين الثابتة، ما زال يعمل حتى الآن، وكييف التي تضم في وسطها مرتفعا يدعى تلة أوليخ تنتظر قدرها المخبأ داخل تجويف رأس حصان ميت.