كيف ينظر الفُرس إلى العرب؟

2019.11.03 | 20:28 دمشق

e55ff550-09a4-4d43-bb06-fae7bd0ef552_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم نُفاجَأ كثيراً بتصريح خامئني حول مظاهرات لبنان والعراق حين وصفَها بأنها "أعمالُ شغبٍ تديرُها أمريكا وإسرائيل"، ولا بـ روحاني الذي طالبَ بوقف تدخّل القوى الأجنبية في العراق، بينما تُتَّـهم ميليشياتُه بالمسؤولية المباشرة عن قتل عشرات المتظاهرين في بغداد، ولا بتهديد سُليماني للمتظاهرين بقوله "لدينا خبرة في قمع الاحتجاجات"؛ بل كان السؤال الذي يراودني: بأيّ صفةٍ رسمية يتحدث هؤلاء عن لبنان والعراق؟ أو: إلى أي درجة من الوقاحة قد وصل هؤلاء؟!

قبل ذلك بأعوام، قال مستشارُ خامنئي إن سوريا هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، ثم صرّح خامنئي يومَ 25-2-2016 بأنهم يحاربُون "الكفّار" في سوريا، ونحن نعرف مَن يقصد بـ "الكفّار" على وجه الدقّة والتحديد. وقبل أيام تداول ناشطون فيديو قديماً لحسن نصر الله، يقول فيه إنّ مشروعهم هو أنْ يكون لبنان "جزءاً من الجمهورية الإسلامية الكبرى في إيران"... فيحضرُني السؤال: بأيّ منطقٍ استعماريّ استعلائيّ يفكّر هؤلاء؟!

تُعيدني هذه الأسئلة وغيرها إلى كتاب "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" للباحثة الأميركيّة جويا بلُندِل سعد، وترجمة الصديق الراحل صخر الحاج حسين. نطالع في هذا الكتاب مواقفَ النُّخب الإيرانية من العرب خلال فترة حكم الأسرة البهلوية (1925-1979)، مثلما تبدَّت في الأعمال الأدبية لتلك الحقبة.

ففي عصر صعود القوميات بداية القرن العشرين، وجدَ الإيرانيّون أنفسَهم متخلّفين عن الغرب الأوروبي، وراحوا يبحثون عن أسباب هذا التخلّف. وبما أنّ إلقاءَ اللَّوم على الآخرين أسهلُ من تحميل المسؤولية للذات، فقد جعلَ الإيرانيّون من الآخَر القريب منهم، أي العرب، شمّاعةً ألقوا عليها جميع مشكلاتهم وأسباب تخلُّفهم. كانت فرضيّةُ النخب الإيرانية تنطلق من أنّ "الغزو العربي" لبلاد فارس في القرن السابع للميلاد، قد دمّر الحضارة الساسانية على يد مجموعة من "البداة المتوحّشين" و "المتعطّشين للدماء". وبالتوازي مع ذلك، كان مستشرقُو القرن التاسع عشر قد توصّلوا إلى أن الفُرس "أمة آرية "، وأنّ لغتهم الفارسية هي من عائلة اللغات الهندو-أوروبية، وهكذا فقد كانت نظرية التفوُّق العِرقي حاضرةً في إيران بقدْر ما كانت حاضرةً في ألمانيا على سبيل المثال.

تشكّلت الهوية القومية الإيرانية على ركيزتين هما: اللغة الفارسية وتاريخ فارس ما قبل الإسلام، وتعزّزت العصبية القومية لدى الإيرانيين عن طريق النظرة العنصرية الشوفينيّة تجاه العرب والمسلمين

وتبعاً لذلك، فما كان الإيرانيّون يرُدُّون أسباب تخلّفهم إلى الأصول العرقية، لكونهم من "أمة آرية نبيلة"، بل إلى سيطرة "أمة ساميّة منحطّة" -هم العرب- عليهم. وهكذا فقد تشكّلت الهوية القومية الإيرانية على ركيزتين هما: اللغة الفارسية وتاريخ فارس ما قبل الإسلام، وتعزّزت العصبية القومية لدى الإيرانيين عن طريق النظرة العنصرية الشوفينيّة تجاه العرب والمسلمين. فمن خلال الآخَر العربي؛ كان يتمّ تعريفُ الذات الإيرانية، فبما أن العربيّ هو "الجائع" و"الهمجي" فإن الإيراني هو "المتنعّم" و"المتحضّر".

وإذا أخذنا أشهرَ كتّاب إيران في القرن العشرين، صادق هدايت، نجد أنه يصف العرب في كتاباته بأوصاف عجيبة، فهم أولاً "كفّار، لا يعبدون ربّاً"، ويوضّح أنّ رفضَه للإسلام لا يعودُ لما فيه كدين، بل لأنه "دين عربي". ويصفُ الرجالَ العرب بأنهم "حُفاةٌ وعُراة" و"جلُودهم سُوداء" و"يركضون خلف السحالي"، وهم أيضاً "بشِعون وقذرون" و "ليس فيهم ذرةُ من حياء"، كما أنّ "وجوهَهم يغطّيها الذباب" و"رؤوسُهم يغطّيها القمل". أما النساء العربيات فيصفهنّ بأنهنّ "نساءٌ سوداوات ذواتُ وجوهٍ موشُومة قذرة"، والواحدة منهنّ "تدفعُ بثديها الأسود إلى فمِ طفلٍ قذر". وفي المسرحية التي يتحدث فيها عن دخول العرب المسلمين إلى فارس يصفهم بـ "مجموعة من الشياطين المتعطّشين للدماء"، وأنهم مثلُ "الجراد" و"الطاعون"، ويكرّر وصفهم بـ "آكلي السحالي". وحتى الموسيقا العربية فلم تسلم من عنصرية هدايت، وتشويهه المريض لكل ما يتعلّق بالآخَر، فيصفُها بـ "النهيق"!

ومن أجل حلّ معضلة اشتراك الفرس والعرب في دينٍ واحد، كان هنالك اتجاهان في إيران؛ الأول يرفض الإسلام رفضاً كاملاً بكل ما فيه من عقيدة وشعائر وتقاليد، ويطالب بالعودة إلى الديانة الزرادشتية. أما الاتجاه الثاني فيرى أن الإسلام الشيعي هو إسلام "مُؤَيْرَن" (Iranized)، أي هو إيرانيٌّ في صميمه، وبالتالي فهو يشكّل مكوّناً أساسياً من العصبية الإيرانية إلى جانب المكوّنين السابقين: اللغة الفارسية وتاريخ فارس ما قبل الإسلام.  ولذلك فإن التعصُّب للإسلام الشيعيّ كعقيدةٍ وهويّة لا يتعارضُ مع الموقف المعادي للإسلام بمعناه العام، أي العداء للإسلام كلّه ما عدا الفرقة الشيعيّة الاثني عشرية، بل إنّ التعصُّب الشيعي يتناغمُ ويتماشَى مع المشاعر المعادية للإسلام (غير الشيعي).

صارت هوية الأمة الإيرانية بعد ثورة 1979، تقوم على العصبية القومية والعصبية الدينية المذهبية معاً. وكلتاهما تنطلق من سردية "المظلوميّة التاريخية"

وهكذا فقد صارت هوية الأمة الإيرانية بعد ثورة 1979، تقوم على العصبية القومية والعصبية الدينية المذهبية معاً. وكلتاهما تنطلق من سردية "المظلوميّة التاريخية"، فهي من جهة مظلومية الفُرس الذين غزاهم العربُ وحكموهم، ومن جهة ثانية مظلومية آل البيت الذين هزمهم الأمويُّون وأخذوا الخلافة منهم (حسب الرواية الإسلامية). وكلتا المظلوميتين تعزّز نفسها بترسانةٍ من المرويات التاريخية التي لا نجدُ دليلاً علميّاً عليها. وكلتاهما كذلك؛ تهدف إلى الانتقام والثأر من الآخَر الذي يمثّلُه العربُ في المظلومية الأولى، والمسلمون من غير الشيعة في المظلومية الثانية.

ومع تراجُع الاتجاهات القومية في العقود الأخيرة، وصعود الإسلام السياسي، غلبت العصبية الدينية المذهبية على الهوية الإيرانية. فمن خلال العصبية الشيعيّة يتمّ تحشيد الشباب وزجّهم في حروب المنطقة، وإقناعهم بأنهم ذاهبون إلى "الجهاد المقدّس" ضد "الكفّار" كما قال خامنئي. ومن خلال ادعائهم "نصرة آل البيت" و"حماية المقامات" يبرّرون تدخّلهم في أكثر من بلدٍ عربي، معَ أنّ آل البيت من العرب وليسوا من الفرس، كما أنّ العرب المسلمين هم الذين يحمون مقامات آل البيت منذ مئات السنين، ولم نسمع أن أحداً ينوي الاعتداء عليها من قبل. ومن خلال ادّعاء "نصرة القدس" و"مقاومة إسرائيل"؛ تتوسُّع إيران عبْـرَ أذرُعها في المنطقة توسُّعاً إمبريالياً بكلّ معنى الكلمة، وتحديداً من حيث تبعيّة الأطراف الاقتصادية والعسكرية والسياسية للمركز الميتروبوليتاني في طهران، وعدم قدرتهم على الفكاك من هذه التبعية.

ولذلك فإن الثورتين العراقية واللبنانية ضد النظام الطائفي، هما ثورتان تهدّدان المشروع الإيراني القائم على العصبية الطائفية تهديداً وجودياً

وبالعودة إلى الأسئلة المطروحة في بداية المقال، فإن القيادة الإيرانية تعتبر المنطقة العربية -لا سيّما العراق- أرضاً فارسية أخذها العربُ "البداة المتوحشون" في القرن السابع، وبالتالي فمن حقّهم استعادتُها. وبعدما قاموا بتحويل المذهب الشيعي إلى طائفة سياسيّة، على طريقة تحويل الدين اليهودي إلى حركة صهيونية، أي من خلال ادّعاء "المظلوميّة التاريخية" وتدعيمها بمرويّاتٍ مُلفّقة وأدبيّات مزوّرة؛ صار المسلمون من غير الشيعة همُ الآخَر من منظور الذات الإيرانية وأتباعها، وهمُ "الكفّار" الذين يجبُ الجهاد ضدّهم، وهم "قتلة آل البيت" الواجب الانتقام منهم. وما الشعاراتُ التي ترفعها الميليشيات الإيرانية مثل "ثارات الحسين" و "لن تُسبى زينب"، وأسماؤها مثل "عاشوراء" و"فاطميّون" و"زينبيّون" سوى أدلّة واضحة على الاتجاه الأيديولوجي لإيران وأزلامها؛ وهو اتجاهٌ دينيّ طائفي، وسلفيّ أصُولي، وتكفيريّ انتقاميّ، وإرهابيّ بالمحصّلة.

ولذلك فإن الثورتين العراقية واللبنانية ضد النظام الطائفي، هما ثورتان تهدّدان المشروع الإيراني القائم على العصبية الطائفية تهديداً وجودياً. وإنّ كل مظاهرة يشترك فيها مواطنون من مذاهب مختلفة، ويهتفون فيها ضد الطائفية، هي بمثابة صاروخ يُطلَق على إيران.

هذه هي إيران التي ما زال كثيرٌ من المثقفين العرب يتحدثون عنها وكأنها وريثة الثورة الفرنسية!

 

كلمات مفتاحية