قطعة جبن في المصيدة التركية..

2023.01.14 | 05:34 دمشق

قطعة جبن في المصيدة التركية..
+A
حجم الخط
-A

ما إن شرعت تركيا في وضع قطعة الجبن في المصيدة، حتى أطل النظام السوري برأسه وأسرع لالتقاطها دون أن يسمع رنات الجرس المعلق في رقبة فلة.

خرج الفأر الجائع من مخبئه مستطلعاً، عارياً متلهفاً متخلياً عن عنترياته، دون أن يبدي شيئاً من التعفف أو التردد أو الممانعة، لاعقاً خطابه الذي كرس فيه حالة عداء مع تركيا تفوق حالة العداء المزعومة مع إسرائيل واعتمده لأكثر من عشر سنوات وصدّره كموقف لا يمكن المساومة عليه.

وبصرف النظر عن عملية التقارب التركي مع نظام الأسد وما تحمله من تساؤلات وشكوك ومخاوف، ورغم ما فيها من مخاطر محتملة على السوريين وثورتهم، إلا أنّ السؤال الأهم غاب في زحمة الحديث عن صدمة التوجه التركي الجديد، وفي هول وغرابة هذا التحول قبل أن تتضح تجلياته الحقيقية على الأرض، وذاك السؤال هو: كيف يقبل نظام الأسد بالتصالح مع المتآمرين على سوريا؟ إنه السؤال الذي يتوجب علينا التركيز عليه أكثر من تركيزنا على الواقع السياسي الجديد، لأن تغير موقف النظام تجاه تركيا هو تحول أبعد بمراحل من تغير موقف تركيا تجاه النظام، إن سلمنا أن الموقف التركي الجديد هو حقيقة وليس مجرد مناورة تقوم بها تركيا لأسباب تخص مصالحها القومية.

ولكي لا تبعدنا الارتباكات المتعددة وتلاطم الأمواج التي يشهدها بحر السياسة الخارجية عن جوهر الحدث السوري ومتنه وحقائقه التي يحاول النظام تغييبها وإضاعتها في التفاصيل والهوامش، لا بد من إعادة طرح ذلك السؤال ووضعه في صدارة الأسئلة وعدم السماح للحدث الجديد بالتهام الحقائق والاستحقاقات الأساسية.

الأسد حمل تركيا المسؤولية المباشرة عن دمار سوريا وتفككها، باختصار صنف النظام تركيا على أنها العدو الأساسي، وركز حربه الإعلامية عليها بالدرجة الأولى

منذ أن انتهى آخر لقاء بين الأسد وموفد الحكومة التركية إلى سوريا أحمد داوود أوغلو في العام ٢٠١١، أعلن النظام السوري تركيا كدولة معادية، ومع تطور الأحداث راح يحملها جزءاً من المسؤولية وصولاً إلى تحميلها المسؤولية كاملة عن المأساة السورية ومن ثم توصيفها كرأس حربة في المؤامرة الكونية على السوريين، ولم يترك تهمة تؤكد وتدعم حالة العداء إلا واعتمدها كحقائق لا تقبل الشك، فمن تجهيز الخيام للاجئين إلى سرقة المصانع والثروات، إلى إدخال الإرهابيين، والتآمر مع الإخوان المسلمين، وصولاً إلى ما عده احتلالاً مباشراً لأجزاء غير قليلة من الأرض السورية، إلى آخر سلسلة الاتهامات التي لم تنته عند اتهام النظام تركيا بحلم استعادة الإمبراطورية العثمانية، كان النظام يؤسس لحالة عداء لا يمكن لأي متغير أن يؤدي لإصلاحها.

ورغم حديثه المتواصل عن المؤامرة الكونية التي لم يستثن منها أحداً ممن طالبوه بالتنحي، أو دعموا الثورة عليه، إلا أن الأسد حمل تركيا المسؤولية المباشرة عن دمار سوريا وتفككها، باختصار صنف النظام تركيا على أنها العدو الأساسي، وركز حربه الإعلامية عليها بالدرجة الأولى.

وحتى اليوم ما تزال مسببات العداء من وجهة نظر النظام نفسه كما هي، فما تزال تركيا تحتضن المعارضة وتدعمها، وما تزال تسيطر على أجزاء من الأراضي السورية، وما تزال سلسلة التهم التي ساقها النظام على حالها، فضلاً عن أن تركيا لم تقدم للنظام بعد حتى قطعة الجبن، بل ربما لوحت بها من بعيد، ومع ذلك لم يتأخر النظام عن تلقف المبادرة والتمسك بها كما يتمسك بمبادرات حلفائه، معتقداً أن تركيا تمد له طوق النجاة الذي ينتظره منذ سنوات.

في غمضة عين، تحولت لغة النظام لدى تناوله الشأن التركي وتغير توصيف الحدث، فحلت تسمية "السياسة التركية الخاطئة" محل كلمة "المؤامرة"، وهو تمهيد للتراجع عن حالة العداء وتحويلها إلى صداقة، فالخطأ يمكن التجاوز عنه، أما التآمر فذو كلفة أكبر يريد النظام أن يتنصل منها بأي شكل لتبرير قبوله المبادرة.

لقد كشفت المبادرة التركية وفق هذا الواقع، وبما لا يترك مجالاً للشك، لهفة النظام لدعم تدوير الأسد واستعداده لتسديد فاتورة ذلك حتى وإن كانت انقلاباً كاملاً على كل المبادئ التي هندس عليها علاقاته بعد انطلاق الثورة، كما كشفت أن معايير العداء والصداقة، والتحالف والاختلاف بالنسبة إليه تفصّل على مقاس الرئيس وليس وفق متطلبات المصالح الوطنية، ذلك ليس جديداً بالطبع، غير أن قبول المبادرة التركية أكده وكرسه وفضحه حتى أمام أتباع الأسد الذين ظلوا طوال السنوات السابقة يعدون حالة العداء مع تركيا شرطاً أساسياً للوطنية عند السوريين، وتحول هذا الشرط إلى أحد الثوابت الأساسية للفعل الوطني الذي تكون من مثلث تتألف أضلاعه من مديح الرئيس والجيش السوري وشتيمة تركيا وتحميل رئيسها مسؤولية الدمار والخراب، بل باتت شتيمة تركيا بمثابة الشعار الذي يجب ترديده من قبل السوريين كأحد الشروط الأساسية والبديهية لإعطائهم صك براءة من تهم الخيانة.

وبالطبع، لن يعدم أتباع النظام وأبواقه الوسيلة للانعطاف مع المنحنى السياسي الجديد وتغيير اللغة والقناعات بما يتناسب مع مصلحة الرئيس، لأن أولئك الأتباع يدركون تماماً أنهم يصطفون مع رئيسهم لا مع بلدهم، فضلاً عن أنهم لا يفتقدون الصفاقة الكافية لطرح تحولات مواقفهم دون تبريرات مقنعة، وبالتالي لن يشعروا بالحرج من انتقالهم من النقيض إلى النقيض، لأنهم تعلموا جيداً ألا يحرجهم منطق مهما كان مفحماً وتمرسوا في ذلك.

لقد تصالح الأسد سابقاً مع الدول العربية التي اتهمها بالاشتراك في المؤامرة، ولكن وقْع تلك المصالحة لم يكن مدوياً كما هو الآن، حيث توارى النظام خلف مفاهيم القومية والعروبة ليغطّي تصالحه مع المتآمرين، فضلاً عن أن التملص من العداء مع تلك الدول التي اعتبرها متآمرة لم يكن أمراً معقداً على الأقل كون تلك الدول ليست دولاً قوية ومؤثرة بما يكفي ليرخي عليها الأسد عبء التآمر كما هو الحال مع تركيا.

من المؤكد أن شرط النظام الأول للمصالحة -إن أتيح له أن يفرض شروطاً على تركيا- هو التخلص من المعارضة بكل أشكالها المدنية والعسكرية، والإعلامية، بل والسماح له بالقضاء على كل سوري يرفض وجوده، فما يزال النظام يحلم بإبادة السوريين الرافضين لوجوده، ولا سيما بعد أن أدمن الإبادة وباتت جزءاً أساسياً من سلوكه.

من المستبعد أن تنشغل دولة كبيرة كتركيا ببيدق صار خارج رقعة الشطرنج، ولكن المؤكد أنها لم تترك له ظلاً يتوارى فيه عن شمس الحقيقة الحارقة، سواء قصدت تركيا ذلك أو لم تقصده

بالمصالحة مع رأس حربة المؤامرة -إن تم-، يحرق النظام كل مراكبه الغارقة، ويحرق معها ورقة التوت التي كان يعتقد أنه يداري بها عورته، كيف لا وهو المتخصص بالحرائق، فمن يحرق بلده لا يتوانى عن إحراق التوت كله وليس ورقة فحسب.

مهما كانت أهداف المبادرة التركية، فهي لن تكون في صالح الأسد، وليست موجهة إليه في عمقها، فمن المستبعد أن تنشغل دولة كبيرة كتركيا ببيدق صار خارج رقعة الشطرنج، ولكن المؤكد أنها لم تترك له ظلاً يتوارى فيه عن شمس الحقيقة الحارقة، سواء قصدت تركيا ذلك أو لم تقصده.

ما تزال نظرية المربعات التي تفرد بها أحد الأبواق الشهيرة هي المرجع الأعلى للنظام وأتباعه، ولذلك نرى الأسد يتمترس في المربع الوحيد الذي يهمه وهو مربع القصر الجمهوري، وطالما حافظَ الأسدُ على هذا المربع فلتذهب سوريا وكل مربعاتها إلى الجحيم.

لا يمكن لوطني أن يتصالح مع من تآمر ضد بلده وتسبب في إحراقها وتدميرها، وقبول النظام بتلك المصالحة لا يعني سوى أحد أمرين، فإما أنه كان يكذب طوال السنوات السابقة، أو أنه خائن لبلده، ولدى النظام تجتمع تلك الحقيقتان معاً دون أية احتمالات أخرى.

لا يريد نظام الأسد العنب، ولا يريد قتل الناطور، فكل همه أن يحصل على قطعة الجبن دون أن تطبق عليه المصيدة.