فنانون معارضون في القصر الجمهوري!

2024.03.15 | 07:14 دمشق

فنانون معارضون في القصر الجمهوري!
+A
حجم الخط
-A

ازدان قصر بشار الأسد بكوكبة من الفنانين النجوم الذين أضفَوا مزيداً من السعادة والبهجة على حياة الرئيس المرح وحوّلوا المكان إلى موقع تصوير من طراز خاص، وشاركوا بتمثيل مشهد هزلي يضاف إلى رصيد الأعمال الكوميدية السمجة التي يقدمونها بكل صفاقة للجمهور دون التوقف عند مستوى تدميرها لذائقة المتلقي والسخرية من عقله وذهنه وظروف حياته وموته ومأساته.

اللافت في ذلك المشهد المتناقض أن كل ضيوف الرئيس هم من الثوار المعارضين المتمردين المهمومين بالتغيير والرافضين للظلم والاضطهاد والطغيان والفساد، ولكن فقط في المسلسلات التي يقدمونها، أما في الواقع فهم يلعبون أدواراً معاكسة تماماً لمضمون ما يطرحونه في مسلسلاتهم.

ثورة هؤلاء الفنانين المعارضين يمكن تلخيصها في ثلاثة اتجاهات: ثورة على الاستعمار الفرنسي، ثورة على الاحتلال العثماني، وثورة ضد الفساد.

فيما يتعلق بالثورة على الاستعمار الفرنسي فهي ثورة بأثر رجعي على محتل رحل أصلاً عن سوريا منذ ما يقارب ثمانين عاماً، ثورة سهلة، افتراضية، مخملية تتم في لوكيشنات التصوير المكيفة ووسط خدمات عالية الجودة، ويحقق الفنانون من خلالها كل أنواع البطولات المشتهاة وربما يقيمونها كمشاركة حقيقية في الثورة وكتضحيات كبيرة يقدمونها في سبيل الوطن..

تبدو صورة هؤلاء الفنانين الثوار مضحكة، فبطولاتهم الكرتونية والكاريكاتورية، والجرأة والتمرد والمواقف الوطنية الخلبية التي يبدونها أمام الكاميرات من خلال الأعمال الدرامية تثير السخرية

لا تختلف الصورة كثيراً فيما يتعلق بالثورة على الاستعمار العثماني الذي انتهى منذ أكثر من قرن، بخلاف المبالغة في تشويه كل ما يتعلق بتركيا الحالية من خلال بعض الإشارات الركيكة والمباشرة للطعن في الدولة التركية المعاصرة إرضاء لغرور الأسد الغاضب على تركيا.

وتبدو صورة هؤلاء الفنانين الثوار مضحكة، فبطولاتهم الكرتونية والكاريكاتورية، والجرأة والتمرد والمواقف الوطنية الخلبية التي يبدونها أمام الكاميرات من خلال الأعمال الدرامية تثير السخرية، ولا شيء إلا السخرية بالمقارنة مع الواقع المعاصر لسوريا والتي تعرّض ثوارها لأقسى أنواع القتل والتعذيب والتنكيل والاضطهاد والتهجير، رغم أن ثورتهم ضد نظام الأسد لا تختلف عن الثورة ضد الاحتلال الفرنسي والعثماني، بل هي ثورة أكثر سمواً وجرأة ووطنية وصعوبة لأنها تصطدم مع احتلال داخلي ومع نظام أكثر قسوة ووحشية من الاحتلالين السابقين، بل ومن أي احتلال همجي شهده تاريخ سوريا، واستكثر الفنانون أن يكونوا ثائرين على ما ثار عليه السوريون المعاصرون حتى في الدراما واختاروا الثورة في اللوكيشن على مستعمر قديم.

بالنسبة للفنانين الثائرين ضد الفساد من كتاب الدراما ومخرجيها ونجومها، فقد استثمروا ظاهرة الفساد كركيزة وبوابة لإدانة الفساد افتراضيا بينما كانوا يسعون من خلال إدانتهم للفساد إلى التقرب من الفاسدين على أرض الواقع، فهم أصحاب رؤوس الأموال التي تقدم لهم فرص العمل والتكسب على حساب قضية السوريين، فضلاً عن الهدف الأعلى الذي اتضح بعد زيارة الفنانين لقصر الرئيس، وهو التقرب من رأس العصابة الحاكمة ذاته وتمجيد القيادة، من خلال تقديم الخدمة المفقودة لها والتي لا يمكن للآخرين تقديمها، فهم يروجون بأن ظاهرة الفساد تنحصر ببعض الشخصيات المتنفذة وكبار المسؤولين في الحكومة، ولا ضير في الطعن بالحكومة ذاتها لإظهار حرص القيادة على المواطن، حيث تكون النهايات دائماً على مقاس طموح تلك القيادة حينما تروج المسلسلات أن تلك القيادة هي من تتدخل في النهاية لمحاربة الفاسدين وإنصاف المظلومين وإحقاق العدالة.

ومن جهة أخرى، فإن جرعات الجرأة التي تقدمها تلك المسلسلات في الطعن بشخصيات مرتبطة بالسلطة والإشارة إلى مواضع الفساد وإدانتها، تعطي انطباعاً عميقاً للمشاهد غير المتعمق بأن النظام السوري ديمقراطي وشفاف بدليل سماحه بانتقاد حكومته على شاشاته، وتلك أهم أنواع الخدمات التي يحتاجها الطغاة ويسعون لها بشتى السبل..

يطلب الفنانون الثائرون من رئيس العصابة محاسبة أفراد عصابته، ولكن بالتمثيل فقط، أما في الواقع فهم يتعاملون مع أفراد تلك العصابة ويحرصون على رضاهم، حيث لا يمكن إنتاج المسلسلات إلا من خلال كبار الفاسدين الذين يستفيدون أيضاً من الأعمال الدرامية لإبعاد الشبهة عنهم من خلال دعمهم للأعمال الدرامية التي تتحدث عن الفساد، إنه ببساطة نوع من النقد الذاتي مضمون النتائج، فالفاسدون هم كتلة متماسكة، وكل الأعمال التي يقدمها الفنانون الثوار الموالون للقصر الجمهوري تهدف إلى تحويل القاتل إلى بطل أسطوري واعتقادهم بأنهم يعطونه الشرعية باعتبارهم نخبة المجتمع، متناسين أنهم فقدوا شرعيتهم، وفقدوا حتى شرعيتهم الفنية والإبداعية والإنسانية والأخلاقية ولم يعد الجمهور السوري يعترف بإنتاجاتهم وبات يقيمها على أنها مجرد محاولات لتلميع صورة المجرم.

وكأمثلة تطبيقية على ذلك، سنجد بين كوكبة النجوم الممثل باسم ياخور بطل مسلسل العربجي، حيث لعب شخصية الرجل الشهم الذي يقف بالمرصاد لكل أنواع الظلم ويعرض نفسه للمخاطر وكاد أن يفقد حياته في الجزء الأول فقط، حيث أوصله نبله وتمسكه بمبادئه وحرصه على العدالة إلى حبل المشنقة أكثر من مرة، ولكن إن بحثنا عن شخصية عبدو العربجي في شخصية باسم ياخور الحقيقية فلن نجد لها أثراً، بل لن نجد لها تأثيراً إيجابياً عليه، فالتركيبة الانتهازية لشخصية ياخور الحقيقية، جعلته لا يتردد في إعلان وصوليته ودونيته من خلال حديثه عن خطه الأحمر المتمثل ببشار الأسد والذي يعادل شخصية "أبو حمزة" في مسلسل العربجي، بكل ما في تلك الشخصية من لؤم وأذى وظلم وتآمر، فكأن عبدو العربجي يصف شخصية "أبو حمزة" بأنها خط أحمر.

الأمر ذاته ينطبق على الفنان تيم حسن الذي أشبع الجمهور العربي بطولات خرقاء على الشاشة في كل المسلسلات التي قام ببطولتها في السنوات السابقة، بطولات تنتصر للمظلوم وتعلي من شأن العدل وترفض الذل، ثم تنحني بالواقع لتلعق كعب السلطة ذاتها التي كانت تتمرد عليها في التمثيل.

وقد كان حضور المخرجة رشا شربتجي المفاجأة التي أثرت اللقاء مع الأسد وجعلته أكثر إثارة وتشويقاً، فمخرجة الأعمال الثائرة على الفساد لم تتردد في تمجيد رأس الفساد في الحياة الواقعية، ودخلت قصر الرئيس كفاتحة تاريخية كرست نفسها لتبرئة الفاسد الأكبر، ولكنه ليس مجرد فاسد بل قاتل محترف، وصانع المجازر الجماعية والبراميل والكيماوي والكبتاجون، فكيف لمن يثور ضد الفاسدين أن يلتقي بالقتلة ويبارك جهودهم في جرائم الإبادة التي يقومون بها ضد شعبهم؟

إن ارتباط نجوم الدراما في سوريا بالسلطة يفقدهم ليس فقط مصداقيتهم الفنية، بل يجعلهم يؤكدون على سقوطهم الأخلاقي وارتمائهم في وحل الجريمة

في الواقع فإن المهمة الأكثر عمقاً لنجوم الدراما في حديثهم عن الاستعمار وعن الفساد، هي محاولة لطمس ملامح المرحلة الحالية وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتلخيص مشكلة سوريا في الفساد، وكأن ثلاثة عشر عاماً من القتل والإبادة والتهجير والتدمير وجلب الاحتلالات وبيع البلد في المزاد العلني، كأن كل ذلك كان مجرد حلم، أو كأنه كان في خيال السوريين فقط وليس واقعاً مأساوياً، أو كأنه واحد من المسلسلات التي تم عرضها على الشاشات ثم انتهى الأمر.

إن ارتباط نجوم الدراما في سوريا بالسلطة يفقدهم ليس فقط مصداقيتهم الفنية، بل يجعلهم يؤكدون على سقوطهم الأخلاقي وارتمائهم في وحل الجريمة من خلال مساهماتهم العميقة في بذل الغالي والنفيس لطمس ملامح تلك الجرائم وتحويلها إلى بطولات خارقة وأفعال أخلاقية.

وإذا كان نفاق الفنانين قابلاً للتبرير أحياناً بحكم الخوف أو الضغوط أو انسداد الأفق أمام الفنانين القابعين تحت سلطة الأسد، فإن اللافت هنا هو نفاق الرئيس نفسه الذي لا يهزه الفن ولا يتردد في قتل أي فنان معارض، ولا يعترف بقيمة الفنون، ومع ذلك يستقبل الفنانين وكأنه مشغول بقيم الحق والجمال والعدل والحب، إنه نفاق متبادل في نهاية المطاف، نفاق مكلف جداً ولكن، لا الفنانون ولا رئيسهم يبدون اهتماماً لتلك الكلفة، فمن يدفع الفاتورة الضخمة هم السوريون وحدهم وسوريا ذاتها.