في "مفاتن" حزب البعث الأوجلاني

2019.08.07 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حين كتب الشاعر والروائي الكردي السوري المقيم في السويد مقالاً بعنوان "سوريا وأكرادها" سنة 2012، ونشرته "القدس العربي" ووصف فيه حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بـ"فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي" و"فرع بعث أوجلان الكردستاني"، ثارت ثائرة الحشد الأوجلاني، وكل الذين يسيرون على رصيف هذا الحشد من المتملّقين والمنافقين والدجّالين والانتهازيين، ولم يبق صعلوك ولقلوق وبندوق أو إمّعة أو مرتزق أو مشروع مرتزق أو "ملتزق" في الحراك السياسي والثقافي والإعلامي والأدبي الكردي إلاّ وتطاول على بركات بأفظع التهم وأكثرها سخافة وشناعة وبشاعة.

تلك "الزعبرة" و"الهوبرة" (الآبوجيّة) و(المأوبجة) أيضاً، كانت من الغباء والسّخف بمكان أنها ربما تجهل أن بركات، لم يأتِ بجديد، بل كرر ما كان يقوله أوجلان في تصريحاته المنشورة في أدبيّات حزبه مطلع التسعينات، وحتّى في كتبه ومؤلّفاته الأخيرة التي سطّرها داخل سجن إيمرالي، حين كان يصف حزبه بـ"بعث الأمّة الكرديّة" وأن حركة العمال الكردستاني، بعثت الكرد من الرقاد والموت، وأخرجتهم من القبر الأتاتوركي، والصهر والتتريك، وأن تجربته وتجربة حزبه هما "ملحمة انبعاث" الأمّة الكرديّة. وأن الكرد كانوا محض معشر من الموتى، نفخ فيهم PKK الروح، وجعلهم أكراداً حقيقيين! حتّى إنه وسم حواراً مطوّلا جرى بينه وبين ياتشين كوتشوك بـ"ملحمة الانبعاث" مطلع 1992، وصدر في كتاب كان من إصدارات الحزب، وتمّ توزيعه في سوريا ولبنان. ليس هذا وحسب، بل إن التقرير السياسي الذي قدّمه أوجلان إلى المؤتمر الخامس للحزب سنة 1995، وتمّت ترجمته للعربيّة وطباعته وتوزيعه أيضاً في سوريا ولبنان، ذكر فيه أوجلان: "اجتزنا مرحلة الانبعاث، ودخلنا مرحلة التحرير". ما يعني أن أوجلان نفسه، كان يكرر كلمة البعث والانبعاث أثناء الحديث عن حزبه، أطلق عليه أوصافاً أطلقها القوميون العرب على حزبهم بنفس الأفكار تقريباً، وسمّوه "حزب البعث العربي" ثم "حزب البعث العربي الاشتراكي"، على أن الحزب أتى ردّاً على آثار ودمار الاحتلاليين العثماني والفرنسي في المجتمع العربي، وأنه يريد إحياء وبعث أمجاد الأمّة العربيّة، وتوحيدها، ونشر رسالتها الخالدة إلى العالم والإنسانيّة!

"إن قيادة الأسد تعني عظمة سوريا، فالوطنية الكبيرة ظهرت في عهد الأسد، وسوريا صمدت كثيراً، فإذا تبدّلت القيادة في سوريا، فقد تنقسم سوريا بقوّة.. طائفيّاً وقوميّاً، ومن خلال الرأسمال والطبقات الكومبرادورية وحتى عشائريّاً، قد تنهض المشاعر العشائريّة. وهذا بمثابة انتهاء سوريا. يمكن أن يأتي بعض الملوك أو بعض الطبقات الكومبرادوريّة المرتبطة بالخارج كالسابق. أساساً عظمة الأسد (الأب) تكمن في مواجهة هذه الاحتمالات، ولا خيار آخر أمام سوريا". هذا الكلام لم يقله قيادي في حزب البعث الأسدي، بل قاله عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني سنة 1996 في حوار مطوّل مع الكاتب والصحافي السوري نبيل ملحم، ونشر في كتاب بعنوان "قائد وشعب.. سبعة أيام مع آبو" (ص 173-174).

أنصار الحزب الأوجلاني، وأوجلان نفسه، حين تعرّض لانتقادات حول هذا الكلام، برره بأنه "تكتيك وليس استراتيجيّة"، مرّده أن أوجلان موجود في سوريا، وأنه أذكى من حافظ الاسد، ويريد خداعه وتوظيف العلاقة معه في خدمة الثورة الكردية! طبعاً هذا التبرير السخيف، كان للاستهلاك المحلّي الكردي وتسكيت الأفواه الناقدة. بدليل؛ بعد موت حافظ الأسد، وتسلّم بشّار السّلطة، وكان وقتها أوجلان سجيناً في إيمرالي، نتيجة توقيع نظام الأسد الأب اتفاقية أضنة مع تركيا، وكان يفترض أن صلاحيّة "التكتيك" الأوجلاني انتهت بخروج أوجلان من سوريا، ومع ذلك أرسل المجلس الرئاسي لحزب العمال الكردستاني برقية تعزية إلى النظام السوري، ونشر نصّ البرقيّة

"بالروح.. بالدم.. نفديك يا أوجلان" هذا الشعار أو الهتاف، لم يكن يردده أنصار ومؤيدو حزب العمال الكردستاني في مظاهراتهم واعتصاماتهم ونشاطاتهم قبل عام 1986

في الصفحة الأولى من جريدة الحزب المركزيّة "سرخوبون" عدد 222 - حزيران 2000،، وجاء فيها: "في هذه الظروف العصيبة، ببالغ الحزن تلقينا نبأ وفاة مؤسس سوريا الحديثة، الزعيم الوطني العربي، الصديق القدير للشعب الكردي، الرئيس الإقليمي والعالمي الاستثنائي حافظ الأسد. نتقدّم باسم القائد العام عبد الله أوجلان ورفاق دربه وباسم حزبنا بالتعازي للمسؤولين في الجمهورية العربية السورية. وللعائلة وللشعب العربي والكردي في سوريا ولكل العالم العربي ولكافة شعوب المنطقة، ونشارك العائلة (آل الأسد) والشعب العربي الحزن بهذا المصاب".

 

"بالروح.. بالدم.. نفديك يا أوجلان" هذا الشعار أو الهتاف، لم يكن يردده أنصار ومؤيدو حزب العمال الكردستاني في مظاهراتهم واعتصاماتهم ونشاطاتهم قبل عام 1986. هذه الطريقة في الهتاف: "بالروح بالدم..." بعثيّة بامتياز. ذلك أن أنصار حزب البعث في سوريا والعراق كانوا يرددونه تعبيراً عن ولائهم المطلق والأعمى لحافظ الأسد وصدام حسين وبشار الأسد. طيب، والحال هذه، كيف وصلت هذه الصيغة والطريقة في الهتافات إلى العمال الكردستاني؟!.

قبل اختطاف واعتقال أوجلان، كان الأخير وحزبه ينتقدان بشدّة مصطفى كمال أتاتورك والأتاتوركيّة. لكن، لا يمكن للمرء أن يزعم بأن العمال الكردستاني خلّص ونظّف نفسه تماماً من الموروث الأتاتوركي مئة بالمئة. لماذا؟. لأن كل مؤسسي العمال الكردستاني درسوا في المدارس والمعاهد والجامعات التركيّة التي كانت تدار وفق ذهنيّة ومناهج التربية والتعليم الأتاتوركيّة. ومعروف لدى القاصي والداني؛ الوسائل والطرائق التي استخدمها الأتاتوركيون لغرس الأتاتوركيّة في عقل ووعي المجتمع التركي، سواء عبر مناهج وسلك التربية والتعليم، الإعلام (التلفزة، الإذاعة، الصحف والمجلات...)، الثقافة، الدراما والسينما...الخ! وبالتالي، تغلغلت الكماليزم أو الأتاتوركيّة - الكماليّة حتى ضمن فصائل المعارضة اليساريّة التركيّة أيضاً. وهذا ما دفع أوجلان ورفاقه إلى الانفصال عن حركات اليسار التركي بتهمة الموروث الكماليزمي الموجود فيها. بمعنى آخر، تركيا من 1923 ولغاية 1978 كانت متمرّغة في مستنقعات الأتاتوركيّة، فكيف يمكن للمرء القول: إن العمال الكردستاني بريء ونظيف من موروثات الأتاتوركيّة مئة بالمئة؟!. فضلاً عن ذلك، أوجلان بعد اعتقاله، صار يمدح أتاتورك. وفي أماكن عديدة من تصريحاته الصادرة من سجنه، حاول تبرئة أتاتورك من عداوة الكرد وكردستان، وذكر بما معناه أن "أتاتورك كان شخصاً جيّداً، لكن المحيطين به كانوا فاسدين وسيئين"! المقصد؛ أن الطرائق والأساليب والأشكال التي استخدمها الأتاتوركيون في نشر وغرس الأتاتوركيّة في المجتمع الكردي والتركي داخل تركيا، هي نفسها الأساليب والطرائق والأشكال التي اعتمدها البعثيون في نشر وغرس فكر وآيديولوجيّة البعث داخل المجتمعين السوري والعراقي.

في سنة 1985-1986 العناصر الكرديّة السوريّة المنتسبة للعمال الكردستاني كانت تعدّ على أصابع اليد. لكن في سنة 1987-1988 بدأ الشباب والصبايا الكرد السوريين ينتسبون بالمئات للكردستاني. وهكذا لحين وصولنا إلى سنوات 1990-1991-1992 التي تعتبر سنوات الانفجار الجماهيري للعمال الكردستاني في كردستان سوريا، حيث انضم الآلاف من الشباب والفتيات إلى صفوف هذا الحزب. كل هؤلاء الكوادر، درسوا في المدارس

غزارة وكثرة الأغاني عن الزعماء هو موروث بعثي بامتياز؛ ذلك أن هنالك آلاف الأغاني التمجيدية التي قيلت في حافظ الأسد وصدام حسين وبشار الأسد

والمعاهد والجامعات التي تدار وفق مناهج التربية والتعليم في دولة حزب البعث. يعني، مثلما لا يمكن نفي الموروث أو التأثير الأتاتوركي على كرد تركيا، عبر الأساليب التي تم ذكرها، كذلك لا يمكن نفي الموروث البعثي عن كرد سوريا. وعليه، عشرات الآلاف من الكرد السوريين الذين انضموا إلى صفوف العمال الكردستاني، أخذوا معهم، ولو القليل، من موروثات ثقافة البعث أيضاً. والأمثلة على هذه الظاهرة أكثر من أن تحصى. ويمكن أن نورد بعض الأمثلة في قطاع الإعلام والفن والموسيقى:

أولاً: غزارة وكثرة الأغاني عن الزعماء هو موروث بعثي بامتياز؛ ذلك أن هنالك آلاف الأغاني التمجيدية التي قيلت في حافظ الأسد وصدام حسين وبشار الأسد. وحين نعود إلى أرشيف فرقة المقاومة: “Koma Berxwedan” التابعة لحزب العمال الكردستاني، نجد أنه حتى قبل 1987 لم يكن هنالك أغنيات خاصة تمدح أوجلان. وفي أفضل الأحوال، يمرّ اسم أوجلان ضمن أغنية ما، بشكل عابر. وفيما بعد بدأ اسم أوجلان يظهر بشكل أكبر تمجيداً في أغاني هذه الفرقة. وأوّل أغنية في هذه السياق كانت للفنان جمال تيريج: "Here em bi te re". بالأغنية واللحن والكلمات والأداء كان لكرد سوريين[1].

سنة 1993 أدّى الفنان خمكين بيرهات أغنية تمدح وتمجّد أوجلان بعنوان: "Bilin Apo.. mezin Apo... serok Apo... Apê me" هذه الأغنية في الأصل، لحناً وكلمات وأداء، لفرقة آغري، الموالية للعمال الكردستاني، في مدينة عامودا الكردية السوريّة. وقد نشرت فرغة آغري هذه الأغنية سنة 1991، قبل أن يعيد تسجيلها خمكين بيرهات سنة 1993[2].

أغنية "Hoy Hoy Apê me" للفنان بيوان آرجين (كردي سوري من قامشلو وعضو فرقة برخودان) قبل أن يعيد تسجيل هذه الأغنية في أوروبا سنة 1995، غنّاها الفنان بيوان في قامشلو سنة [i]1990[3].

أغنية "Can Apê me" التي أغنّاها الفنان جومرد في كوما برخودان، هذه الأغنية في الأصل لفرقة آغري[4].

أغنية "Serokê min" للفنان الكردي السوري بنكين (حكمت جميل) التي غناها على خلفية اختطاف واعتقال أوجلان، اللحن والكلمات والأداء هي لأكراد سوريين.

على ضوء ما سلف، قبل أن يتجه الفنانون الكرد من تركيا إلى تأليف الأغاني عن أوجلان وتمجيده وتأليهه، فعلها الفنانون الكرد السوريون الموالون للعمال الكردستاني. وغالب الظنّ أنهم فعلوا ذلك تحت تأثير الموروث البعثي.

ثانياً: يجب ألا يغيب على البال وجود زعيم الحزب ومعسكراته في لبنان - سوريا على امتداد 1982-1998. ويستحيل ألا يكون لهذا الأمر أي تأثير على أداء وفكر وسلوك العمال الكردستاني. عدا عن ذلك، وفي الكثير من الأماكن والمناسبات، كان أوجلان وحزبه يمدحان حافظ الأسد، الدكتاتور والطاغية المستبدّ، فقط لأنه كان يقدّم الدعم لهذا الحزب. بل إن أوجلان وحزبه كانا ينظران إلى الأسد الأب على أنه "صديق الشعب الكردي"، وأنه "يدعم حركات التحرر الوطني"... إلى آخر هذه الأوصاف والالقاب المجّانيّة، كما ذكرت آنفاً.

نقطة أخرى، لا مناص من التعريج عليها، تشير إلى وجود الموروث البعثي داخل حزب العمال الكردستاني، وهي تشكيل الحزب وحدات عسكريّة فدائيّة سنة 2000، حملت اسم "فدائيي أوجلان". تلك الوحدات العسكريّة، كانت تضمّ المقاتلين الجدد، شباب وصبايا تتراوح أعمارهم بين 14 الى 16 سنة. وكانت لهم معسكرات خاصة بهم، يُمنع على المقاتلين القدامى الاقتراب منها أو الاحتكاك مع هؤلاء المقاتلين الأطفال، لئلا يتم التأثير عليهم وحرفهم عما تم تدريبهم عليه، وهي العمليات الانتحارية والفدائيّة. هذه الطريقة في إطلاق الأسماء على الوحدات العسكريّة، هي أيضاً طريقة بعثية صرفة. إذ سبق لنظام صدام حسين تشكيل هكذا وحدات، باسم "فدائيي صدام" سنة 1994، تمّ حلّها بعد إسقاط نظام صدام سنة 2003.

كل ذلك، ناهيكم عن الغزارة في استخدام الصور والتماثيل التي تمجّد الزعيم. وعليه، في حال تم إخضاع ظاهرة حزب العمال الكردستاني إلى التحليل والتفكيك على الصعيد والفكري والآيديولوجي والإعلامي من خلال السلوك والتركة الأدبية والثقافية والسياسيّة التي خلّفها، يمكن أن نلحظ الموروث الستاليني، والموروث الأتاتوركي، وكذلك الموروث البعثي في هذه التجربة. ومع ذلك، يقدّم الحزب نفسه على أنه الأنموذج الفكري والسياسي الأرقى بين الكرد وفي منطقة الشرق الأوسط على صعيد الديمقراطيّة والتعامل مع البيئة والحيوان وحقوق المرأة وحقوق المثليين! وسليم بركات البعيد عن السياسة والانتماءات والولاءات الحزبيّة السوريّة وعن "الائتلاف" و"الأردوغانيّة"، كان معنيّاً بالوقوف ضد الاستبداد وعسكرة المجتمع الكردي، وتحويله إلى حلقات دروشة وذكر، تسبّح بحمد أوجلان وتطوف بأصنامه التي كانت تغرس في المناطق الكرديّة السوريّة، بعد منتصف 2011. ولم يكن على خصومة حزبيّة مع أنصار الحزب، بل كان على خصومة مبدئيّة مع ثقافة الأوثان والأصنام وتحويل المجتمع إلى حظائر وإسطبلات آيديولوجيّة وحزبيّة وعقائديّة، يكون فيها البشر عبارة عن قطعان. لذا لقي الرجل من شتم ورجم وتخوين وهتك عرض قومي وطنني وثقافي غير مسبوق من أنصار الحشد الأوجلاني.

 

[1]   https://www.youtube.com/watch?v=C4tqA2OjN_k

[2]   https://www.youtube.com/watch?v=bO6IyC1L5KQ

[3]   https://www.youtube.com/watch?v=bO6IyC1L5KQ

[4]   https://www.youtube.com/watch?v=BttQbG0gxtg