حكاياتي مع المدن - (1)

2019.10.01 | 17:14 دمشق

دمشق
+A
حجم الخط
-A

عشتُ في مدنٍ عديدة، وأخرى مررتُ بها. كل مدينة منها أذاقتني شيئاً، ومنحتني أشياء، وقالت لي أشياء أخرى.

الدرباسيّة، المدينة الحدوديّة الكرديّة – السريانيّة – العربيّة الصغيرة، تفتّقت فيها طفولتي على الرسم والمسرح وقراءة الشعر الذي لم أكن أفهمه، وأنا في المرحلة الابتدائيّة. ذقت فيها حلاوة الشعارات الثوريّة؛ القوميّة واليساريّة الكبرى في مطالع الصبا. وعلّمتني أن الشّاب لا يعيبه الفقر والعوز والإعاقة، لكن يعيبه قلّة الأخلاق أو انعدامها. وأن مسقط الرأس، ليس بالضرورة المكان الذي نولد فيه. ثم قالت لي الدرباسية في منصف التسعينيات: "حان موعدك مع الشعر، فابدأ من حيث تريد، وكنْ حيث تريد، واجتهد حيث تريدهُ أحلامك الكبرى والصغرى. وإن أردت مغادرتي، فليكن إلى مكان يزيدك على ما أضفته إليكَ". وكان ذلك فعلاً، حين غادرتها إلى العاصمة دمشق في 9/9/1998، تاركاً تحت تراب الدرباسية رفات جدّتي لـ"أبي"، وناثراً في شوارعها وحواريها الكثير من الذكريات.

دمشق علّمتني أن المرء هو خلاصة كدّه واجتهاده ومنازلته الحياة

الآن، وبعد أن اشتدَّ عضدك وعودكَ وتأسس وعيكَ، أصبحتَ متاحاً للكتابة والكتابةُ متاحةٌ لك. عِش الكتابةَ كمن يعيش حكاية حبّ من طرف واحد، إلى الأبد

وعشقه لها. وأذاقتني طعمَ الحبّ من طرف واحد مرّتين مريرتين. فتحت لي أبوابها والنوافذ، فصرت أجوب المراكز الثقافيّة وأحضر الأمسيات والندوات والمعارض والعروض. وعرّفتني دمشق على أصحاب تجارب في الشعر والأدب والكتابة والصحافة والاعتقال السياسي، واستفدت منهم جميعاً، أيّما استفادة. وقالت لي سنة 2000: "الآن، وبعد أن اشتدَّ عضدك وعودكَ وتأسس وعيكَ، أصبحتَ متاحاً للكتابة والكتابةُ متاحةٌ لك. عِش الكتابةَ كمن يعيش حكاية حبّ من طرف واحد، إلى الأبد. وإذا منحت الكتابة نفسك بصدق وإخلاص وأخلاق ولهفة، فسيأتي اليوم الذي تمنحك فيه الكتابة نفسها بوَله وشغف، وتصبح حكايتكما؛ حبّاً من طرفين".

وفي نهاية 2008، حمتني دمشق في ريفها ثلاثة أشهر، متوارياً عن الأنظار، لحين هروبي من وطني، نتيجة ملاحقة جلاوزة وزبانية المخابرات الجويّة التابعة لنظام الأسد. وعليه، بعض مضي أكثر من عقد (1998-2009)، غادرت دمشق حزناً وألماً، تاركاً في مقابرها رفات جدّي وجدّتي، ويممتُ وجهي صوب المجهول المتربّصِ بي.

كانت بيروت فاتحة تجربتي الصحافيّة في الصحافة الكرديّة، ثم العربيّة، والجرائد التي كنتُ أسمع بأسمائها في التلفزة أو الراديو؛ كالحياة، النهار، السفير، المستقبل، أصبحت تنشر لي على صفحاتها. وفي كل مقال نشرته لي صحف بيروت، وعلى امتداد أعوام، كنتُ أشعرُ بفرحةِ المقال الأوّل المنشور لي في العالم.

حكايتي مع هذه المدينة، أقرب إلى الحبّ السرّي. لأنني كنت من الكرد السوريين المجرّدين من الجنسيّة، لذا، استعنت على ذلك باستخدام بطاقة شخصيّة لمواطنين سوريين آخرين، وأرشي سائق التاكسي حتى يمررني من الحدود إلى لبنان. وعليه، رؤية بيروت كانت محفوفة بالمخاطر، وتلزمني دفع رشوة.

بيروت أذاقتني طعم ومرارة البكاء تحت سمائها، عاشقاً منكسراً مخذولاً محبطاً منهاراً، ملتهبَ المشاعر والأفكار. ولكم أن تدركوا؛ ماذا يعني أن يختلط دمع العاشق بمطر بيروت! قالت لي: "ثمّة مدن أخرى، أجمل منّي، تنتظرك، كي توسعكَ عشقاً وتزيدك وعياً بكينونتك. مدنٌ أخرى بأناسٍ آخرين، ينتظرونك. غادرني إليها، إلى تلك المدن، وسأكون في استقبالكَ هناك أيضاً". وفعلاً، غادرتها في الثلث الأوّل من شباط 2005، ولم أعد إليها حتّى الآن. لكن، سأعود إليها، لا لكي نعيد دورة الذكريات السريّة، والأحزان والبكاء تحت المطر. بل كي أحدّثها عن المدن الأخرى التي مررت بها، وما أحدثته فيَّ.

قامشلو أو القامشلي، مدينة الحبّ، كما يصفها الكرد، هذه المدينة، زرتها كثيراً ومررت بها أكثر. وأذاقتني طعم القبلة في أحد أزقتها، تحت جنح الليل الحالك المُنهك من فرط النعاس، والمطرُ زذاذٌ ينهمر. ذلك الطعم، لا يمكن اختباره أو تجربته إلاّ في نفس تلك الحالة وفي ذلك الزاروب، ونعاسُ الليل في أشدّهِ، والرذاذ ينثرُ الرحمة والسلام على عاشقين. القُبل السريّة تحت ليل قامشلو الماطر، المجاز والإعجاز ينحنيان أمامها عجزاً وخجلاً.

قالت لي قامشلو: "احتفظ بهذا الرذاذ المتساقط من سمائي، ستحتاج إليه يوماً، في مكانٍ ما، كي يطهّرك من سموم الآيديولوجيا والعقائد العُقد؛ العُصابات المشدودة على العقول والأفئدة". وكان لي ذلك.

حلب، زرتها كثيراً، وعشت فيها قليلاً. أطول مدّة كانت أسبوعين، هارباً من الملاحقة الأمنيّة، نهاية 2008. ومجموع الأيّام التي عشتها في حلب، على امتداد 43 سنة، ربما لا تصل إلى ثلاثة أشهر. وهذه المدّة كانت كافيّة كي أتعلّم منها أنه ثمّة مدن، تبقى دائماً أجمل من القصائد التي تُكتب فيها، ومن الأغاني التي تُقال عنها. في حلب وحدها، ذقتُ طعمَ أن تنتظر حبيباً في حديقة عامّة، وأثناء ذلك الانتظار، تكتب قصيدة للحبيب. حلب نهاد الترك، حسكو حسكو، محمد جيجاك، نهاد كولي، خالد خليفة ومها حسن... وأصدقاء وصديقات كُثر. حلب الاجتماعات الحزبيّة "السريّة"، والمناشير "السريّة" والقبلات السريّة. في الطريق الممتدّ بينها وبين القامشلي، نثرت بعض أسراري. وأحلم بذلك اليوم الذين يمكنني فيه المرور بتلك الأسرار على جانبي ذلك الطريق البعيد في تلك الليالي البعيدة، لا لكي ألملمها، بل كي أتأكد؛ أما زالت تذكرني تلك الذكريات، أم نسيتني هي أيضاً؟

قبل مغادرتي حلب، لم توصني المدينةُ بشيء؛ سوى تقوى الحبّ والشعر والكتابة، وأن أعتني بالآخرين أضعاف اعتنائي بنفسي. وهذا ما أحاول فعله، عملاً بتلك الوصيّة.

إسطنبول أذاقتني طعم أشياء كثيرة، شديدة المرارة والقسوة، وشديدة الحلاوة واللذة أيضاً. أوّل مرّة ركبت فيها طائرة وترامواي والمترو، كانت في إسطنبول. وفيها كتبتُ أوّل محاولة روائيّة، وضاعت منّي في اليونان. وأوّل ظهور تلفزيوني لي على قنوات التلفزة العربية (قناة العربيّة) كان في إسطنبول سنة 2009.

قالت لي المدينة: "لا أعلم إن كنتُ حزينة أو سعيدة بأنني جسرٌ بين قارتين مختلفتين! هويتي ملتبسة، والخصوصيّة فيها هو هذا الالتباس. ثمّة مدن حائرة، أسماؤها ملتبسة، ضوضاؤها ملتبس، مزاجها ملتبس، وأزعم أنني من تلك المدن. ولا أريد لك أن تكون هكذا. كن واضحاً كعين النسر، نقيّاً كقطرة ندى، عليلاً كنسمة، صاخباً كهدير قطارٍ وَقودهُ الأسئلة والأخيلة. كن ما شئت، ولا تكن ما يشاؤهُ الآخرون لك".

أحبّتني إسطنبول، وأحببتها. لكن النظام الحاكم فيها، كان على علاقة وطيدة وشيجة مع نظام الأسد، سنة 2009، ورفض منحي الإقامة المؤقّتة، كي تباشر مفوضيّة اللاجئين إعادة توطيني، ما أجبرني على رفع دعوى قضائيّة على وزارة الداخليّة التركيّة أمام المحكمة الإداريّة، وأجبرت النظام على منحي الإقامة المؤقتّة. لكن، هربت من إسطنبول، لأنني استشرفت نُذُر غدر تلوحُ في الأفق.

آمد (دياربكر)، سمعتُ باسمها في أحاديث أمّي وجدّتي. وقرأتُ عنها في

عثرت في دياربكر على الخيبة الكبرى، وعرفت أن الآيديولوجيا الحزبيّة قادرة على تحويل أوطان وبلدان بأكملها إلى سجون ومعتقلات

كتب التاريخ والسياسة، وفي القصائد والأشعار المجلجلة. رفات أبي وجدّي وجدّتي لـ(أمي) وأخوالي، مدفونة تحت تراب "بيسمل"؛ إحدى البلدات التابعة لـ"آمد"/ ديار بكر. أضفت إلى تلك المقابر، قبراً جديداً، قبل فترة، دفنت فيه شقيقي الأكبر.

عثرت في دياربكر على الخيبة الكبرى، وعرفت أن الآيديولوجيا الحزبيّة قادرة على تحويل أوطان وبلدان بأكملها إلى سجون ومعتقلات، بلا جدران. وشعرت بآلام "آمد" وأنها بين نيران الغبن والظلم التركي، ونيران التسمم الآيديولوجي الحزبي الكردي. هذه المدينة العاصمة التي تئنُّ بين ظُلمَين، عثرتُ في صيفها اللاهب (حزيران 2010) على الحبّ الكبير والعميق الذي هزّني من الأعماق. وباركت ديار بكر ذلك الحبّ، ورعتهُ وسقتهُ شعراً وانتظاراً ولوعةً. سنة 2015، عدتُ إلى آمد، وبرفقتي ثمار الحبّ الكبير، توأمي؛ "ساوير وشانا". ومشينا بجانب السور العظيم الذي مشينا بجواره أنا والحبّ الكبير، أوّل مرّة. وبتنا في الفندق الذي كنا نبيت فيه أوّل مرّة. وسط الهمّ والغمّ والحزن الذي كان تعيشه آمد، ابتسمت، حين رأتنا، وقالت لي: "وطنك، حيث تكون حرّاً، وليس حيثُ تولدُ وتعيشُ ذليلاً مهاناً مغبوناً مهدور الكرامة. وطنك قصائدك وسرديّاتك التي ستكتبها وترويها للناس. ومع ذلك، لا تبخس الأماكن والأوطان حقوقها عليك. كنْ مرآةً واحدة، تعكسُ عالماً من الأمكنة والأوطان. في كل زيارة جديدة لك إليّ، سيكون هناك ما هو جديد، أضيفه إليك. المدينة إنْ عشقت شخصاً، تمنحهُ بلا حساب، كأنّها شعبٌ من العشيقات، ولا تأخذُ سوى رؤية الفرح والسعادة والأمل والمتعة في أعين وأرواح عاشقها".