icon
التغطية الحية

في ماهية الديمقراطية المعاصرة: ليبرالية واجتماعية بالضرورة

2023.05.29 | 12:37 دمشق

آخر تحديث: 29.05.2023 | 12:37 دمشق

ديمقراطية
+A
حجم الخط
-A

على الرغم من السمعة الإيجابية التي تحظى بها كلمة الديمقراطية، من حيث ارتباطها بفكرة الحقوق والحريات (الفردية) واحترام الاختلاف والتعددية، ليس من النادر توجيه النقد (الشديد) لها، سواءٌ لمضامينها النظرية أو تطبيقاتها العلمية. وإذا وضعنا جانبًا النقد المأجور المدعوم من استبداد النظام القائم، ثمة الكثير من الانتقادات المحقة التي توجه إلى الديمقراطية.

من بين هذه الانتقادات، مثلًا، الإمكانية الدائمة لهيمنة الأغلبية بطريقة مجحفة بحقوق الأقلية وبالحقوق الفردية، أو لهيمنة الأطراف المدعومة من قبل القوى الاقتصادية الكبيرة، أو لهيمنة التوجهات الشعبوية التي تضحي بالمستقبل والتنمية المستدامة عن طريق تبنيها لقرارات شعبوية وقصيرة النظر، تم تشكيلها بناءً على الرأي العام الحالي والتأثيرات العاطفية، بدلاً من الرؤية الشاملة والمدروسة للواقع. كما أن الانقسامات بين أطراف العملية السياسية قد تفضي إلى شلل الحكومة والنظام السياسي برمته.

من الواضح أن هذه الانتقادات الموجهة للديمقراطية تتأسس على قيم الديمقراطية ومبادئها. كما يمكن لانتقاداتٍ أخرى أن تتأسس على ما (أصبح) يتصل بمفهوم الديمقراطية اتصالًا وثيقًا، كمفهومي الليبرالية والعدالة الاجتماعية. فمن الناحية النظرية أو المفهومية على الأقل، الديمقراطية المعاصرة ليبراليةٌ واجتماعيةٌ، أو هكذا ينبغي أن تكون بالضرورة، لأن هذين المفهومين أصبحا مؤسسين لمفهوم الديمقراطية وشرطين لديمقراطية أي نظامٍ ديمقراطيٍّ معاصرٍ. ولا ينفي ذلك أو يتجاهل أن الليبرالية، بوصفها حالةً تاريخيةً ترتبط بالحقوق والحريات الفردية تحديدًا، كانت، في كثيرٍ من السياقات التاريخية، منفصلةً عن الديمقراطية، بحيث يمكن القول إن وجود الليبرالية، سابقٌ على وجود الديمقراطية في بعض الحالات (الحالة البريطانية مثلًا)، ولاحقٌ عليه في حالاتٍ أخرى (حالات الانتقال الديمقراطي من أنظمةٍ سلطويةٍ في القرن العشرين خصوصًا). وكذلك الحال في خصوص مسألة العدالة الاجتماعية، حيث لم تتزامن مسألة الحصول على الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، وهي الحقوق التي يمكن اعتبارها مؤسسة لمفهوم المواطنة الديمقراطية.

يضع توماس مارشال، في كتابه "الطبقة والمواطنة والتطور الاجتماعي (1965)"، تصورًا أو نمطًا مثاليًّا للتطور التاريخي لتحقق فكرة حقوق المواطنة، ويرى أن هذا التطور قد بدأ مع الحقوق المدنية في القرن الثامن عشر، ثم جاءت مرحلة الحقوق السياسية في القرن التاسع عشر، والحقوق الاجتماعية في القرن العشرين. ويبدو هذا النمط المثالي أقرب إلى الصيرورة التاريخية التي حصلت في بريطانيا، في هذا الخصوص، كما يرى عزمي بشارة محقًا. وبالتالي، ينبغي عدم افتراض أنها الحالة النموذجية التي حصلت أو ينبغي أن تحصل لقيام الديمقراطية أو نجاح الانتقال الديمقراطي. فمن الضروري تعلم الدروس واتخاذ العبر مما حصل في خصوص نظرية أو أطروحات العلمنة. فبعد أن كان هناك (شبه) إجماع على أن العلمنة الحديثة أو الحداثة المعلمنة تتضمن بالضرورة خصخصة الدين وتراجع حضوره في المجال العام وفي اعتقادات الأفراد في المجتمعات أو الدول الحديثة، بالإضافة إلى ازدياد (هيمنة أو سطوة) المجالات غير الدينية المتميزة أو المتمايزة عن المجال الديني، أظهرت أبحاثٌ كثيرةٌ، في العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، أن تلك الأطروحات تعبِّر عما حصل في أوروبا (الكاثوليكية أو الجنوبية) خصوصًا أو تحديدًا، وأن نظرةً عامةً وشاملةً على التطورات التي حصلت في مناطق وثقافات العالم المختلفة، تبين أن ما حصل في أوروبا (الكاثوليكية) هو أقرب إلى الاستثناء منه إلى القاعدة، وأنه لا ينبغي النظر إليه على أنه نموذجٌ يعبِّر عما حصل، أو ينبغي أن يحصل، في كل المجتمعات أو الدول الحديثة.

الديمقراطية تقتضي أن يكون الأفراد أحرارًا ليس بالمعنى السلبي للحرية فحسب بل بالمعنى الإيجابي لها أيضًا

انطلاقًا مما سبق، لا يتأسس القول بأن الديمقراطية المعاصرة ليبرالية واجتماعية بالضرورة، أو ينبغي أن تكون كذلك لتكون ديمقراطيةً، على السيرورة التاريخية للعلاقة بين مسائل الديمقراطية والليبرالية والعدالة الاجتماعية، بالدرجة الأولى، وإنما يتأسس، تحديدًا أو خصوصًا، على تحليلٍ مفاهيميٍّ، لمفهوم الديمقراطية ولمفهومي الليبرالية والعدالة الاجتماعية التي نقول بكونهما (قد أصبحا) شرطين ترنسندنتاليين أو مؤسسين لمفهوم الديمقراطية. فما الذي يمكن أن يفيدنا به التحليل المفاهيمي للمفاهيم المذكورة؟

الديمقراطية بالتعريف، الأولي والشائع والمتفق عليه عمومًا، تعني حكم الشعب لنفسه بنفسه، أو عن طريق من يختارهم لذلك، ومن أجل نفسه. والديمقراطية المعاصرة تمثيلية بالضرورة، لأن عدد أفراد الشعب وحجم الدول وتعقيدات الحياة (السياسية) المعاصرة، لم تعد تسمح لأفراد الشعب بأن يكونوا حكامًا ومحكومين، كما كان الحال جزئيًّا، في أثينا الإغريقية، على سبيل المثال والخصوص. ولهذا تتطلب الديمقراطية (التمثيلية) وجود انتخاباتٍ بالضرورة، ليختار أفراد الشعب من يحكمهم. والقول بمفهوم الاختيار الديمقراطي، يعني القول بالحرية، ليس بحرية الانتخاب والاختيار فحسب، بل بالحريات المتصلة بها والمتداخلة معها بالضرورة: كحرية الاعتقاد وحرية التعبير وحرية الصحافة والإعلام وحرية التجمع وتأسيس الأحزاب والجماعات أو المؤسسات المدنية. وبدون تمتع أفراد الشعب بهذه الحريات/ الحقوق، يصعب القول بديمقراطية أي نظامٍ سياسيٍّ معاصرٍ. وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأن لا ديمقراطية بدون ليبراليةٍ (سياسيةٍ)، وأن الديمقراطية هي ليبرالية بالضرورة، إذا فهمنا أن الليبرالية تعني تمتع أفراد الشعب بالحريات الفردية (الأساسية). والحرية والفردية هما كلمتا السر المؤسستان لمفهوم الليبرالية (السياسية).

وكما هو واضحٌ، الليبرالية المؤسِّسة لمفهوم الديمقراطية هي الليبرالية السياسية تحديدًا، أو بالدرجة الأولى، وليس الليبرالية الاقتصادية، على الأقل في صيغتها الحديثة (النيوليبرالية). بل يمكن القول إن الليبرالية المعنية هنا هي ليبرالية اجتماعية مضادة للنيوليبرالية. ولتوضيح التداخل بين مفهوم العدالة الاجتماعية من جهةٍ، ومفهومي الديمقراطية والليبرالية (السياسية) من جهةٍ أخرى، من المفيد التذكير بالتمييز الشهير بين نوعي الحرية السلبي والإيجابي، الذي قدمه إشعيا برلين وإيريك فروم، ونجد أسسًا قويةً له في فلسفة كانط. فالحرية السلبية تعني هي حرية عدم التدخل، أي عدم تدخل أطراف خارجية في (حياة) الفرد، وتقييدها لخياراته وعرقلتها لسعيه إلى تحقيق أهدافه. في المقابل فإنَّ الحرية الإيجابية هي حرية الاقتدار أو الاستقلال الذاتي، حيث يكون الفرد سيد نفسه، أي يكون قادرًا على أن يكون المشرع الرئيس لنفسه، وعلى أن يستثمر ممكنات الحرية المتاحة موضوعيًّا في تحقيق ذاته.

الديمقراطية تقتضي أن يكون الأفراد أحرارًا، ليس بالمعنى السلبي للحرية فحسب، بل بالمعنى الإيجابي لها أيضًا وخصوصًا. وتمتع الفرد بالحرية الإيجابية يعني أن يكون قادرًا على استثمار الممكنات الموضوعية لحريته. وتتناقص إمكانيات تمتع الأفراد بالحرية الإيجابية بقدر معاناتهم من الجهل أو التجهيل والفقر أو الإفقار والاستغلال في إطار القوانين والمؤسسات وعلاقات القوة القائمة. ويفضي التفاوت في أوضاع الناس الاقتصادية الاجتماعية إلى تفاوتٌ في قدرتهم على التأثير في العملية السياسية. ويبلغ هذا التفاوت درجة جعل نسبةً ضئيلةٍ من النخبة الاقتصادية الغنية أقوى تأثيرًا، من الأغلبية الساحقة (المسحوقة) من الناس. وهذا ما نجده واضحًا، على سبيل المثل، في كل الدول التي تهيمن فيها التوجهات النيوليبرالية، كالولايات المتحدة الامريكية، مثلًا وخصوصًا. ولهذا السبب، فإن حدًّا أدنى من العدالة الاجتماعية ضروريٌّ لحريات الأفراد ولديمقراطية النظام السياسي، مفهومٌ على أنه توزيعٌ منصفٌ وعادلٌ للقوة على الأطراف المساهمة في العملية السياسية، حيث يتمتع عموم المواطنين بالحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة وما يتصل بها من نظم تربوية تعليمية وصحية وإعلامية، بما يسمح لهم بالمشاركة الفاعلية في تلك العملية.

في النصف الثاني من القرن العشرين كان الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، بين اليسار واليمين، بين أنصار العدالة الاجتماعية وأنصار الحريات (الفردية) هو (أحد) أهم المسائل المهيمنة على المشهد السياسي والفكري. ومثلت محاولة جون رولز في نظرية العدالة (1971) إحدى أبرز المحاولات في الفلسفة السياسية المعاصرة للتوفيق بين مفهومي أو قيمتي الحرية والمساواة في إطار نظريةٍ للعدالة (الاجتماعية) تشدد على ضرورة تلك العدالة في الحياة السياسية الديمقراطية. وبالتضاد مع ذلك التوجه الرولزي، ونتيجةً لانهيار المنظومة الاشتراكية، استشرست المنظومة الرأسمالية الغربية، وبدأت في النيل الشديد من قيمة العدالة الاجتماعية وتعيناتها في الأنظمة السياسية الاقتصادية للدول، وفي قضمٍ متزايدٍ للحقوق الاجتماعية في دول الرفاه (الديمقراطية)، مع الإفراط في الإعلاء من قيمة الحريات الاقتصادية، ومنحها لأصحاب الثروات والاستثمارات والقوى الاقتصادية المهيمنة. فزاد التفاوت في الثروات والقوى وإمكانية التأثير (السياسي) بين الأطراف الاجتماعية الاقتصادية السياسية المختلفة، لدرجة تؤثر سلبًا، أكثر فأكثر، في ديمقراطية تلك الأنظمة النيوليبرالية. ويبدو هذا التوجه عالميًّا ومهيمنًا في كل الدول ذات الأنظمة الديمقراطية. أما الدول الأخرى ذات الأنظمة الاستبدادية، فينطبق على عددٍ متزايدٍ منها، وبدرجاتٍ متفاوتةٍ، العنوان الفرعي لكتاب الصحفي البريطاني آلان جورج عن سوريا عام 2003: "لا خبز ولا حرية".