icon
التغطية الحية

في تحليل ظاهرة جورج وسوف وأهواء "ثقافة الظلّ" الشعبية

2023.01.12 | 09:47 دمشق

وسوف
+A
حجم الخط
-A

ليست المشكلة في أن يصرح معارض سوري ذو نبرة راديكالية بحبه لأغاني مواطنه جورج وسوف، بل في عدم فهمه لأسباب حبه له، الذي يشترك فيه مع مئات الألوف، إن لم نقل الملايين من أبناء جلدته، ممن يصغون لأغنيات أبي وديع، وهم يطوون الصفحات التي تنشر أخبار مآسيهم في فيس بوك وغيره، ويتأملون في كلمات أغانيه وجملها التي تحكي بشكل أو بآخر عنهم.

ومع فيض التهويمات الشعورية العالية التي يمتلكها المجروحون بالخسارات، فيحولون كل شيء إلى موجات أثيرية تدور حول ذواتهم: الألحان، الشعر المحكي، الصوت في تحولاته، يصلون أخيراً، إلى علاقة صاحب هذه الأشياء كلها، مع نظام الأسد، وموقفه الثابت في دعمه له، وعدم تغييره له بناء على إلحاح الثورة، لا بل تماهيه مع إجرامه في أكثر من موقف ومناسبة، أقلها صوره برفقة ولده الراحل وديع مع بشار الأسد، في وضعيات جسدية تعزز ما يعرفه الجمهور عن علاقة غير عادية مع الأسرة الدموية.

التحول إلى المعارضة لدى فئات كبيرة من السوريين لم يكن تقليداً سائداً في سوريا، التي صنع وجهها المعروف حافظ الأسد، فالناس وبعد سلسلة ممارسات طويلة اشتغل نظامه عبرها على تدمير السياسة كممارسة في الشارع السوري، وجدت أنها ليست مضطرة لأن تخسر، بسبب إعلانها عن مواقف سياسية مناوئة، ولهذا، صارت الفئة التي شاءت البقاء في دائرة الصراع مع الحكم البعثي، صغيرة، ومهمشة، تحاول أن تبني عالماً خاصاً ومختلفاً، مقابل عالم بدأ يظهر، مع تمدد "الأسدية" كثقافة أمنية منفلتة في حياة السوريين.

وضع الأشياء في مسمياتها، في هذا السياق، يقتضي من المرء أن يعدد الأسماء والحيثيات والأمكنة، ما يفضي إلى كتابة تاريخ موازٍ لسوريا، يشرح ما جرى في كافة السياقات، وكيف تداعت البلاد التي أسُست إدارياً على يد الانتداب الفرنسي، والحكومات الوطنية، ولم تستطع هيمنة الناصرية لمدة ثلاث سنوات السيطرة عليها، وتحولت منذ عام 1963 إلى ضيعة متسعة الأرجاء، تسودها علاقات، تقوم على التواصل الشخصي بين الأفراد ومراكز القوى، بدل أن تبنى على وجود المؤسسات والأنظمة والقوانين، وصارت الأولوية فيها للأمني، وسط تهميش للتنمية.

ومع تشدد بعثيي حركة 23 شباط اليساري، سيجد سكان المدن والبلدات الصغيرة، الفرج من ممارساتهم الحازمة، على يد حافظ الأسد الذي انقلب على رفاقه، وفتح بعض النوافذ، على طريقته المزاجية الشخصية، كي يشعر الناس بقدرتهم على التنفس!

شكلت سنوات خمسينيات وستينيات القرن العشرين عقلاً سورياً جمعياً، ما زال مستمراً بكل ما يحتويه حتى الآن، ودون النظر إلى الصراعات التي نشأت بعد حصول البلاد على استقلالها من الحكم الفرنسي، لا يمكن فهم كيف تشكل التلقي السوري بوصفه مرآة العلاقة بين صناع الخطاب وبين الجمهور، فمن جهة المسألة الطبقية كان من الواضح أن ثمة تبايناً بين أمزجة السكان في الأرياف، وبين سكان المدن، وأن ثقافة المدينة لم تغزُ الريف، خاصة وأن التأسيس التنموي الذي تم الاشتغال عليه بوصفه عملاً استراتيجياً كان يحتاج لوقت طويل كي يأتي بنتائج يشعر بها المواطن.

لقد حدث العكس، إذ غزت ثقافة الريف المدينة، على إيقاع اندفاع الريفيين نحو مؤسسات الجيش والأمن، والهجرة صوب دمشق، واجتياح ثقافتهم للمؤسسات العامة، حيث سيصبح المنتج الثقافي الفني الخاص بهم حاضراً، بالتوازي مع المنتجات الثقافية والفنية التقليدية التي أنتجت سابقاً في المدن الكبرى.

لم يجد السوريون ممن لم يعجبهم حافظ الأسد كشخصية ذات منبت ريفي، تنتمي لطائفة من الأقليات، فائدة من المعارضة، وذهبوا أكثر فأكثر نحو تقبل تحولات البلاد، والتكيف معها. وضمن هذا الواقع، سيصبح التعاطي مع ما تحمله المرحلة الأسدية ممكناً، وقابلاً لأن يصبح أصيلاً بعد أن كان طارئاً غير مألوف، وتبعاً لخاصية البشر في التكيف، وبناء الممارسات الراسخة بناء عليه، سينكشف المشهد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عن ظواهر فنية وثقافية وإعلامية، سيُرضع وجودها ملايين من الأطفال الذين جاؤوا إلى العالم بعد تولي الأسد الأب السلطة، فإذا كانت النشرات الإحصائية تشير إلى أن الفئات الشبابية ظلت مهيمنة حتى الآن على التوزع العمري للسكان، يمكن إدراك أن غالبية من يحملون الهوية السورية، إنما تشكلت ثقافتهم في فترة حكم العائلة الأسدية، حتى يومنا هذا.

معاناة الوسوف في البداية لم تختلف عن مواجهة كثيرين للمصاعب والمعوقات في مجالات مشابهة، وحتى مختلفة عن الفن، ولهذا ستصبح الأجزاء المعروفة منها للجمهور جزءاً من سردية حضوره

تالياً لما سبق، وبالعودة إلى علاقة السوري المعارض بأغاني جورج وسوف، يمكن إدراك أن المشاعر الإنسانية اليومية تجاه الظواهر، تتشكل من خلال معايشتها لها، وأن الصدى الذي تتركه في العقل، رغم أنه قد لا يكون مريحاً في لحظة تشكله، سيصبح مع الوقت جزءاً من كتلة كبيرة من حيثيات، لا يمكن للسوري أن يحكي عن نفسه دون أن يجعلها من مكوناته.

هذا الأمر لا يتعلق بالفن والثقافة، بل يمتد لكل شيء، من ثقافة المدرسة الإعدادية والثانوية والجامعة، إلى التجنيد الإجباري، إلى العمل، مروراً بالرياضة والإعلام، وتفاصيل الحياة اليومية لكل فرد.

فإذا كان كل ما سبق يخضع للعلاقات الأمنية، التي تكرس وجود الدكتاتور على كرسيه، ووجود طبقة مهيمنة تتبع سياسته ومصالحه، فإن التكوين النفسي للسوري، لن يكون قابلاً للتفكيك دون فصل الذاتي عن الموضوعي، أو الخاص عن العام، ودون قراءة آلية نشوء الظواهر المحلية وتكونها، على أرضية تحول المبدأ العام، من السماح بكل شيء وتقنين المنع، إلى العكس تماماً، الأمر الذي يعني أن الأغنية التي تظهر في التلفزيون السوري الوحيد، أو تبث في إذاعة دمشق، ستحوز على الانتشار بشكل سبقي، وذلك لعدم وجود بدائل عنها، وإذا كانت كبضاعة فنية مقبولة من فئات كبيرة من الجمهور فإنها ستكرس. فإذا كان صاحبها/ صاحبتها يتماهى في ممارساته أو تكوينه الشخصي مع نمط الشخصية المتملكة للقوة، المهيمنة، القاسية، والرحيمة، فإن عناصر تشكل الظاهرة لا تكتمل فقط، بل أنها تسود وتصبح وجهاً من وجوه المرحلة.

عاش جورج في بدايات حضوره في حي الدويلعة في العاصمة دمشق، وهو حي مخالفات سكنية، غلب على سكانه أنهم مسيحيون، أتوا من أرياف متعددة، وعملوا في مؤسسات الدولة قاطبة.

وفي سبعينيات القرن الماضي، كان من الطبيعي أن يسمع المارون في تلك الحارات صوته، وهو يغني موال "سألتها من وين قالت من حاصبيّا"، وأن تُسمع معه في أشرطة الكاسيت أصوات ريفيين آخرين، بلهجات مختلفة يشاركونه جلسته.

ومع تشكل شخصية أبناء هذه المنطقة وشبيهاتها في الشام، ستصبح شخصية الفنان القبضاي، الذي تربطه علاقة طيبة مع رجالات النظام المستحدثين، حاضرة بالتوازي مع مسيحيّته، التي ستُمهد له حضوراً وفعالية في أوساط "كتائبية" و"قوتجية" في بيروت، التي ذهب إليها، محاولاً العثور على فرصة، مقابل إهمال المؤسسة الرسمية، في نقابة الفنانين، التي كان يديرها صباح فخري، ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون، التي يجب على الفنان الشاب أن يخضع لرقابتها، وتقييم رجالاتها التقليديين قبل أن تفتح له الأبواب!

معاناة الوسوف في البداية، لم تختلف عن مواجهة كثيرين للمصاعب والمعوقات، في مجالات مشابهة، وحتى مختلفة عن الفن، ولهذا ستصبح الأجزاء المعروفة منها للجمهور جزءاً من سردية حضوره، فهو لم يأت من أوساط تقليدية ذات ماض سلطوي، أو متمكنة اقتصادياً، بل جاء من الفضاء الريفي، ليوسع لنفسه مساحة في المدينة، التي كانت تتريف، وتجبر الجميع على التخلي عن الطبائع المدينية غير الراسخة.

وفي معمعة الصراع الدموي الذي خاضه الأسد مع تنظيم الطليعة المقاتلة، ونشوء شريحة من قادة وضباط وأفراد العناصر الأمنية، ستنشأ في اليوميات السورية، ولا سيما لدى الجيل الفتي الذي عاش على هامش الصراع، شخصية رجل الأمن الذي يمتلك السلطة، فلا يقف أمام جبروته شيء، مزوداً بدعم القائد المفدى "أبو سليمان" (الاسم الشعبي لحافظ الأسد قبل موت بكره باسل) وبالتوازي معه ستظهر شخصية عنصر سرايا الدفاع، الذي يوالي القائد رفعت شقيق حافظ، ورغم ما يفرق بينهما لجهة الولاءات والتبعية، سيتوحد الطرفان في الذائقة، وفي فرض مزاجهما المشترك على الذوق العام.

سيكون جورج وسوف جزءاً من المتفق عليه بين أطراف السلطة، وبين شريحة تتسع شيئاً فشيئاً من الجمهور، ويعود هذا قبل أي شيء، إلى أن ابن كفرون كان موهوباً، واستطاع أن يفرض حضوره مبكراً في الأوساط الفنية، خاصة وأن جزءاً من نجاحاته لم يعد يأتي من أوساط الريفيين سكان أحياء المخالفات، أو من القرى البعيدة، بل صار يفد من بيروت، التي كانت تستوعب الخامات الفنية الأولية السورية، ثم تعيد تصديرها لأصحابها، بوصفها نتاج ملقح بالألق اللبناني الجذاب والمفعم بالحيوية.

أخبار الفتى صاحب الصوت الجميل كانت تصل إلى أعلى الهرم السلطوي، وبشكل أو بآخر، سيصبح من الضروري، على منفذي الأوامر في المؤسسات المعنية أن يفسحوا المجال لتسجيل بعض الأغاني صوتاً وصورة في مبنى التلفزيون في ساحة الأمويين، من بينها أغنية "درغلة يا درغلة" الشعبية، التي لا نعثر عليها في ألبوماته الرسمية، بل في أجواء حفلات خاصة، كانت تنتشر كاسيتاتها بسرعة في أجواء السميعة، ولاسيما سائقو الحافلات، وعموم الشباب والمجندين منهم على وجه الخصوص، الذين ستصبح أغاني الوسوف وفؤاد فقرو (غازي) وغيرهما جزءاً من تزجيتهم للوقت، قبل أن تتفجر بعد عقود فقاعة الأغاني الريفية الساحلية، المعروفة حالياً.

قبول الجمهور للظاهرة الوسوفية، لم يكن منفصلاً عن مشهد عام مال فيه للبحث عن فرص العيش، دون أن يكونوا عرضة للمشاكل الحاصلة على المستوى السياسي في سبيعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وسيصبح جورج بأغانيه التي عرفها الجمهور العربي بعد عام 1986 جزءاً من تآلف نفسي، أعان الناس على تقبل ما يجري من تمدد للقمع في سوريا، ورغم انتشار هالته بوصفها مقبولة من رجال الأمن الأسدي، إلا إن ذلك لم يمنع حتى المستاؤون من تقبله.

وفي المقابل كانت الأوساط الثقافية ذات المنحى النخبوي ترفض التعاطي مع كل نتاجات المرحلة، ولا تميز بين جورج أو فؤاد أو غيرهما من مطربي ومطربات المرحلة.

هنا يمكن فهم حقيقة تقول بأن التحولات اللاحقة في تاريخ سوريا، كانت تتوازى مع تحولات الظاهرة، لكنها لا تنبذها، وذلك لأن الشخصية التي كانت تبرز في عموم المجتمع هي تلك التي تشبه الوسوف لجهة البحث عن القوة من خلال الارتباط مركزياً أو طرفياً بالسلطة، عبر البوابة الأمنية، وتتماهى مع صوره وهو يغني في حفلات يجلس ضباط الأمن في طاولاتها الأمامية، اشتهر منها تلك الحلفة التي غنى فيها "حلف القمر" بينما تهادت أمامه الراقصة العراقية سمارة.

وفي التصور الخيالي الذي سيستند لمعطيات واقعية، لن يكون بالإمكان افتراض وجود الوسوف في مكان ما دون مرافقة شخصية، ودون سيارات "مفيمة"، ومع تكرار الأحاديث عن طيبة قلب السلطان (صار لقبه هكذا الذي حازه بعد ألبوم "الهوى سلطان) وعطفه على الآخرين، وعدم اهتمامه بالصغائر، وبحثه عن الكيف الشخصي، سيصبح جورج زعيماً لمذهبه، الذي تتقاطع شعائره مع ممارسات طائفة النظام العابرة لكل الطوائف السورية، سيكون جورج هو قائد الذائقة لجيل كامل من الشباب، الذين صاروا حالياً الكتلة الرئيسة في الفئات العاملة السورية، وسيكسب احترامهم مهما فعل.

ثار السوريون ضد النظام، فقُتلوا وتشردوا، وصاروا منفيين ومعارضين، يكرهون داعمي الأسد، يشتمونهم ويشمتون بهم حين تصيبهم النكبات، لكنهم ظلوا وبنسبة كبيرة حائرين بما يمكن أن يفعلوه مع جورجهم، الذي صار مبعث شفقتهم، وهو يتداعى صحياً وصوتياً!

وبينما مضى بعض السوريين بإعلان مواقف صريحة في الشماتة بما أصابه، حين مات ابنه البكر وديع قبل أيام، معتبرين أنها "الكارما"، كان بعضهم الآخر يرفض التشفي به، أو يرى في حكايته جزءاً من التركيبة المؤلمة لسوريا كلها، وفي الوسط بين هؤلاء وأولئك، كان التيار العام يتعاطف مع الأب المنكوب، الذي كان ذات يوم رئيس جمهورية البسط والكيف، والحب المنكوب، والزعرنة والرجولة.