icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: روسيا هي الخاسرة في حرب إسرائيل على حماس

2023.11.21 | 17:23 دمشق

آخر تحديث: 21.11.2023 | 17:34 دمشق

xcv
قوات أميركية وروسية في شمال شرقي سوريا
Foreign Policy- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في خريف عام 2012، فتحت السفارة الأميركية في موسكو باب النقاش حول الدور الروسي في الشرق الأوسط، إذ في خطاب ألفته دبلوماسية أميركية متمرسة، ركزت على الطريقة التي استهلكت فيها روسيا طاقتها بشكل لم يعد معه بوسعها استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي في تلك المنطقة. وبوجود عدد ضئيل من الأصوات المعارضة، تميز النقاش بالتطرق للخطأ الذي ارتكبته روسيا بحق نفسها، وقد تصادف ذلك مع الوقت الذي كانت فيه موسكو قد بدأت لتوها بالظهور من جديد في الشرق الأوسط وذلك عندما أخذت تلعب دوراً رئيسياً في سوريا وفي عموم المنطقة.

واليوم، أضحى النفوذ الروسي في الشرق الأوسط عند نقطة تحول أخرى، إذ إثر تعثرها في غزو الجنوني الأوكراني، تبين ضعُف الدور الروسي في المنطقة، وهذا ما تجلى بصورة حادة خلال الهجوم الذي نفذته حماس في السابع من تشرين الأول، إذ في الوقت الذي كانت فيه موسكو تحتل موقعاً رئيساً في الدبلوماسية المتعلقة بالحرب السورية التي امتدت لأكثر من عشرة أعوام، لم يحظ الضغط الروسي في مجلس الأمن من أجل وقف إطلاق النار في غزة سوى باهتمام ضئيل، وفي هذا التناقض ما يرمز إلى نهاية عودة روسيا إلى المنطقة بعد مرور عشر أعوام.

بداية القصة مع بوتين

قبل الفوز بمنصب رئيس دولة روسيا في أيار 2012، كان فلاديمير بوتين قد اعتزم إعادة روسيا إلى سالف دورها البارز في الشرق الأوسط، ويرجح أنه اعتقد بأن هذا الدور ضروري لروسيا حتى تصبح قوة عظمى. لذا، وعبر انتقاد رئيس روسيا وقتئذ، ديمتري مدفيدف، وقراره القاضي بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي يجيز استخدام القوة في ليبيا، والذي شبهه بوتين بقرار يشبه قرار شن الحروب الصليبية التي قامت خلال القرون الوسطى، بدا بوتين عازماً على منع إطلاق يد الغرب في تلك المنطقة من جديد. ومع اندلاع الحرب في سوريا في عام 2011 واشتداد أوزارها في 2012، اتخذ الكرملين موقفاً متشدداً في وقوفه ضد أي تحرك أممي مخافة تكرار ما جرى من أحداث في ليبيا.

 

خط أوباما الأحمر والتسوية البوتينية

وفي خضم الحرب السورية، رسمت موسكو طريقها لإبراز أهميتها في الشرق الأوسط مرة أخرى، إذ قام بوتين بأول وأكبر تحرك له في سوريا في أيلول 2013، ومع استعداد الولايات المتحدة للتدخل عسكرياً عقب تجاوز النظام السوري للخط الأحمر الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي وقتئذ، باراك أوباما، والمتمثل باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري، خرج بوتين بتسوية دبلوماسية تعهدت روسيا من خلالها بالمساهمة في القضاء على ترسانة الأسلحة الكيماوية في سوريا.

تدخلات لتعزيز الوجود الروسي

بعد مرور عامين على ذلك، عززت روسيا موقعها من جديد في المنطقة عبر التدخل العسكري في سوريا، وفي أقل من عام واحد، قلبت القوات المسلحة الروسية موازين الحرب لصالح ديكتاتور سوريا، بشار الأسد، الذي بقي في الحكم، وفي ذلك نجاح استغله بوتين لمد نفوذه في المنطقة. ومع ترسخ قبضته في سوريا، أصبحت موسكو تحتل دوراً محورياً في دبلوماسية المنطقة مقارنة بأنقرة والرياض والقاهرة.

وعبر التعامل مع إيران وحزب الله في ساحة المعركة بسوريا، تحسنت علاقات موسكو بطهران.

ومع اضطرار إسرائيل لمراعاة وجود القوات العسكرية الروسية في الجوار، وخاصة قطعات الدفاع الجوي الروسية التي بوسعها تعطيل سلاح الجو الإسرائيلي إن أرادت، زاد التعاون بين إسرائيل وموسكو، في حين سعى كل من العراق ومصر للحصول على معلومات استخبارية من روسيا فضلاً عن التعاون معها على محاربة الإرهاب، وسرعان ما بدأت القوات المدعومة روسياً بالتوافد إلى ليبيا للتدخل في الحرب الأهلية الدائرة هناك.

اللعب على المتناقضات

استغلت موسكو عودة روسيا من جديد إلى المنطقة لتقدم نفسها بديلاً عن الولايات المتحدة، مستفيدة من حالة السخط على واشنطن لتعزز من نفوذها هناك.

وفي تركيا، استثمرت موسكو في تصورات الشارع حول وجود دعم غربي للانقلاب الفاشل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016، إلى جانب استثمارها في تواصل الاشتباكات بشأن التعاون الأميركي مع القوات الكردية في سوريا والتي تعتبرها أنقرة جماعات إرهابية.

أما في مصر، فقد استغل بوتين مخاوف إدارة أوباما عقب إسقاط الحكومة الإخوانية المنتخبة ديمقراطياً على يد الجيش المصري في عام 2013، وذلك عبر تحسين العلاقات مع رئيس مصر الجديد، عبد الفتاح السيسي.

وفي إسرائيل، استفاد بوتين من برود العلاقات بين أوباما ورئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، ليحسن العلاقات مع إسرائيل بصورة أكبر.

وفي السعودية، راهن بوتين في مرحلة مبكرة على ولي العهد الطموح، محمد بن سلمان، فصافحه بطريقة استعراضية واضحة خلال قمة العشرين عام 2018، بعد مرور شهر واحد فقط على اغتيال الصحفي جمال خاشقجي على يد ثلة من عملاء المملكة.

أسهمت مقاربة موسكو المصلحية ومهارتها الدبلوماسية في التغلب على الانقسامات الإقليمية بكل نجاح، إذ تمكنت روسيا من تحسين علاقاتها مع إيران وإسرائيل والسعودية في آن معاً، كما نجحت في توريط الحكومة التركية والجماعات الكردية بسوريا، وتفادت بكل مهارة كل الانتقادات التي وجهتها أنقرة لواشنطن.

بداية التراجع وتغير الأحوال

بيد أن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في شباط 2022، بدأت معه مرحلة تفكك النفوذ الروسي في الشرق الأوسط بشكل تدريجي، إذ في البداية، شوه الهجوم الروسي غير المبرر الموقف الدولي لموسكو، فأضعف من إمكانية تحولها لبديل بوسعه أن يحل محل واشنطن، وهكذا وافقت القاهرة مثلاً التي تتعرض لضغط من واشنطن، على وقف عمليات شحن الأسلحة لروسيا بعد التخطيط لإرسالها، وذلك لأن تلك الأسلحة لا بد أن تستخدم لدعم جهود موسكو الحربية في أوكرانيا. في حين تحاشت أنقرة شراء دفعة جديدة من منظومة الدفاع الجوي إس-400، ومن المرجح أنها أدركت بأن اللعب بورقة روسيا مع واشنطن بات أقل مصداقية وفاعلية في الوقت الحالي.

هذا وقد تغير أيضاً نفوذ موسكو في علاقاتها مع الدول المحورية في المنطقة، إذ في الوقت الذي كانت فيه روسيا قادرة على فرض عقوبات موجعة على تركيا رداً على إسقاط الأخيرة لطائرة حربية روسية في عام 2015، ما أجبر أردوغان على الاعتذار في نهاية المطاف، أصبحت روسيا اليوم تعتمد على تركيا التي تحولت إلى صلة وصل أمام شحن البضائع إلى روسيا وذلك للالتفاف على العقوبات الغربية، إذ أصبح الطيران الروسي يمر اليوم بأجواء اسطنبول ودبي لتجنب القيود المفروضة على الأجواء الأوروبية، كما صارت موسكو تشتري مسيرات مسلحة إيرانية الصنع، بل تطورت معها الأمور لتبني مصنعاً لإنتاج مسيرات مرخصة من إيران في روسيا.   

هجوم حماس ونقطة اللاعودة

في نهاية الأمر، يمكن القول بأن روسيا أضعفت وجودها العسكري والأمني في الشرق الأوسط، إذ في الوقت الذي ما تزال فيه روسيا تحتفظ بقاعدة بحرية وجوية مهمة في سوريا، نراها قللت عدد جنودها وعتادها في تلك المنطقة لتدعم العمليات العسكرية في أوكرانيا.

ولتغذية آلة حربها المتداعية، صارت روسيا تعمد إلى تجنيد مقاتلين سوريين، وعلى الرغم من احتفاظها بوجود في ليبيا عبر ما كان يعرف بمجموعة فاغنر الرديفة لجيشها، قامت بإعادة نشر قوات من تلك المجموعة في أوكرانيا ليساهموا في القتال الجاري هناك. ثم إن قدرة روسيا على استعراض قوتها في المنطقة تعترضها الحقيقة القائلة بأن موسكو ستواجه ضغطاً كبيراً لتعزز وجودها من خلال أزمة ما، وإلا قد تتعرض قواتها لتهديدات في المنطقة، بما أن روسيا ملتزمة بإرسال معظم الجنود إلى أوكرانيا.

 

لا دور لروسيا في مستقبل الشرق الأوسط

وعليه، من المرجح أن يمثل هجوم حماس ورد إسرائيل الضاري نقطة اللاعودة بالنسبة للنفوذ الروسي الواهن في الشرق الأوسط، فقد شهدت العلاقات بين روسيا وإسرائيل تجاذبات كثيرة قبل كل ذلك بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أن رد بوتين على الحرب على غزة  جعل الأمور أسوأ، إذ من خلال إنحاء اللائمة على السياسة الأميركية، أحجمت موسكو عن إدانة هجوم حماس بشكل صريح.

وهذا التحفظ الذي أبدته موسكو لم يمر من دون أن يلاحظه أحد من الجانب الإسرائيلي، فقد خرج سياسي من حزب نتنياهو على قناة روسية رسمية وأخذ ينتقد رد فعل موسكو، وفي الوقت الذي يرجح فيه بأن بوتين قد خرب علاقاته الشخصية مع نتنياهو، يحتمل للعلاقات بين البلدين أن تتدهور بنسبة أكبر في حال مغادرة الأخير لمنصبه من جراء الحرب على غزة.

إن أمجاد موسكو السابقة التي تمثلت بدور الوسيط الذي كانت تلعبه بين الفصائل الفلسطينية قد تبدد بنظر كثيرين، لأن روسيا رفضت تصنيف حماس كتنظيم إرهابي، وسعت لتسهيل عملية المصالحة بين الفصائل الفلسطينية لتكون تلك خطوة أساسية باتجاه السلام وإقامة دولة فلسطينية.

وعليه، فقد زار مسؤولون من حماس موسكو مرات عديدة خلال العقد الفائت، كان آخرها قبل شهر من الآن. ولكن حتى لو بقيت حماس موجودة بعد الاجتياح البري الإسرائيلي لغزة الدائر الآن، فلا يرجح أحد للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية أن تبقى أولوية ضمن عملية السلام في الشرق الأوسط خلال المستقبل القريب.

من المرجح أيضاً للحرب بين إسرائيل وحماس أن تصعب أمور اللعب على تناقضات الخصوم في المنطقة، خاصة بعد تحسن علاقات موسكو مع طهران، إذ في الوقت الذي فضلت فيه موسكو عدم الانحياز لأي طرف بين إسرائيل وإيران، فمن المحتمل أن تسهم محاولات التزام الحياد وسط اشتداد النزاع إلى خلق توتر مع الطرفين، وإن قُيض لموسكو أن تختار، فلعلها ستختار أن تقرر بناء على رؤيتها للأثر الذي سيخلفه كل ذلك على حربها في أوكرانيا، بما أن هذه الحرب تحولت اليوم إلى الإطار الذي يعاين من خلاله بوتين كل التحديات والتهديدات الدولية. وقد يحتاج الكرملين لأن يقرر إن كانت الأسلحة الإيرانية أهم بالنسبة لروسيا أم أن الأولوية هي إبقاء النفوذ مع إسرائيل وذلك لثنيها عن تقديم السلاح لأوكرانيا.

أي تصعيد للأزمة وتحولها إلى حرب إقليمية أوسع ومشاركة إيران فيها بشكل مباشر، لا بد أن يفضح سوأة العجز الروسي أمام الجميع، إذ على الرغم من إقامة قواعد عسكرية لها في سوريا

ثم إن أي تصعيد للأزمة وتحولها إلى حرب إقليمية أوسع ومشاركة إيران فيها بشكل مباشر- وهذا بحد ذاته لا يرجحه أحد اليوم، لكنه يظل احتمالاً وارد الحدوث- لا بد أن يفضح سوأة العجز الروسي أمام الجميع، إذ على الرغم من إقامة قواعد عسكرية لها في سوريا، ما يزال الوجود العسكري الروسي لا يكفي لرسم شكل الأحداث في المنطقة. وفي السابق، كانت روسيا إن تعرضت لأي تهديد، تختار التراجع كما فعلت في عام 2018 عندما شنت الولايات المتحدة غارات جوية لمعاقبة سوريا عبر استهداف مواقع فيها. بيد أن روسيا اليوم لا تتمتع بالنفوذ الذي يمكنها من وضع أي تسوية أو تصدّر أية مفاوضات، إذ حتى مع الدولتين اللتين تتمتع معهما موسكو بعلاقات طيبة، أي السعودية وإيران، كانت بكين هي من تتوسط لتطبيع العلاقات بين البلدين.

ترحب موسكو بكل تأكيد بالحرب بين حماس وإسرائيل، وذلك لأنها تشغل انتباه العالم عن حرب روسيا على أوكرانيا، ومن المحتمل لهذه الحرب أن تجبر الولايات المتحدة على اتخاذ قرارات بشأن الأولوية التي تعطيها للدعم الأمني الذي تقدمه لإسرائيل أو لأوكرانيا، بيد أن الدعم الكامل الذي قدمته واشنطن لإسرائيل في عملياتها العسكرية أدى إلى ظهور مقارنات غير مريحة مع الهجمات الروسية على أوكرانيا، إلا أن أهداف واشنطن في العالم العربي أو في نصف الكرة الجنوبي عموماً لا تصب بالضرورة في مصلحة موسكو.

في نهاية الأمر يمكن القول بأن الأزمة التي عجل هجوم حماس بظهورها قد أسهمت في تقرير مستقبل الشرق الأوسط، إلا أن الدور الروسي في رسم هذا المستقبل سيكون صغيراً هذا إن بقي لروسيا أي دور في المنطقة، كما لا يتوقع أحد قيام مؤتمر مدريد آخر، وفي الوقت الذي لعبت فيه روسيا دوراً محورياً في أي مفاوضات حول الحرب السورية طوال العقد الماضي، يرجح كثيرون أن يخط الشرق الأوسط مسار مستقبله من خلال حرب عزة من دون أن يكون لروسيا كبير إسهام في رسم هذا المستقبل وصياغة شكله.

 

المصدر: Foreign Policy