لم يكن أحد يتخيّل أن تشافي هيرنانديز، الذي جاء لتدريب برشلونة كمدرب طوارئ، سيستطيع تغيير شكل الفريق بهذه السرعة الفائقة، وأقصى ما كان مطلوباً منه العمل جاهداً على تأمين مقعد للفريق في دوري أبطال أوروبا الموسم المقبل.
كل متابعي برشلونة يعلمون جيداً المحطات القاسية التي مرّ بها الفريق الموسم الماضي، أبرزها الإقصاء من أبطال أوروبا، استقالة بارتوميو ووصول لابورتا، ديون تفوق المليار يورو، رحيل ميسي، معاناة لتسجيل الصفقات المجانية، وتحقيق لقب وحيد بشق الأنفس (كأس الملك).
استمر تراجع مستوى الفريق مع بداية هذا الموسم، حيث خرج من كأس السوبر الإسباني، ومن ثم جاءت الضربة الموجعة بالإقصاء من أبطال أوروبا من دور المجموعات لأول مرة منذ 20 عاماً، إلى جانب تذبذب النتائج في الدوري، والتي كان أبرزها خسارة الكلاسيكو في معقل الكتلان (الكامب نو).
أمام كل تلك المطبات تعالت الأصوات بضرورة إنقاذ البارسا من الغرق، ليتم في مطلع تشرين الثاني الماضي التعاقد مع الإسباني "تشافي"، لوضع حجر الأساس لإعادة إحياء البارسا تمهيداً للموسم المقبل، لكن الصادم أن لمسات تشافي ظهرت سريعاً، وبدأ الفريق يسير بنسقٍ تصاعدي، بعد بدايةٍ كارثية هذا الموسم مع المدرب كومان.
تطور "البلوجرانا" تحت قيادة تشافي، بلغ مستوياتٍ متقدمة في آذار الحالي، حيث استطاع الفريق كسر عقدة الهزائم أمام ريال مدريد، وتغلب عليه في عقر داره برباعيةٍ نظيفة، إلى جانب الوصول إلى ربع نهائي الدوري الأوروبي، وبات مستوى الفريق يُبشر الجماهير بالعودة للزمن الجميل لبرشلونة، ولا سيما في فترة 2009-2011.
ماذا فعل تشافي؟
منذ وصول تشافي بدأ بزرع أفكاره في اللاعبين، والتي سرعان ما برزت نتائجها على أرض الواقع، حيث أصبح الفريق أخطر هجومياً، وأكثر سرعةً واستحواذاً، وتحسّنت اللياقة البدنية بشكلٍ كبير للاعبين من خلال تكثيف التدريبات، فقبل قدوم تشافي كان الفريق بطيء الحركة وينهار بدنياً في الشوط الثاني.
تشافي تحلّى بالصبر منذ قدومه، ففي الأسابيع الأولى استمر البارسا بحالة التخبط، لكن المدرب عمل على تطوير الفريق بشكلٍ تدريجي، فلم يكن يطلب من اللاعبين أمورا أكثر من طاقتهم، بل في كل مباراة كان يضيف فكرة جديدة، لأنه يدرك أن اللاعبين ليسوا آلات جاهزة لتطبيق أفكاره فوراً.
يمتاز تشافي بشخصية قوية قادرة على إدارة المباريات، واستطاع كسب ثقة لاعبي برشلونة سريعاً، إلى جانب واقعيته في التدريب وعدم توجيهه الانتقادات عبر الإعلام.
اللافت في هذا المدرب أنه يهتم بالأداء أكثر من النتيجة، وفي بعض المرات خرج غير راضٍ على الفوز، بسبب تواضع الأداء، عكس المدربين كومان وفالفيردي، الذيّن كانا يهتمان فقط بالفوز وحصد النقاط الثلاث أياً كان الأداء.
تشافي يعرف ما يريد حيث درس لاعبيه جيداً، لا بل إنه كان يتابع البارسا حتى خلال تدريبه للسد القطري، وهذا ساعده في الوصول إلى التشكيلة المثالية سريعاً، فلم يكن لديه تخبط في الخطط، واستطاع خلق حالة من الانسجام في الملعب بين اللاعبين.
دراسة تشافي "للبلوجرانا" بشكلٍ عميق، ساعدته على معرفة ماذا ينقص الفريق، ما دفعه للتعاقد مع أربعة لاعبين في الميركاتو الشتوي، والذين كانوا من أهم أسباب استعادة الفريق لقوته الهجومية، على عكس بعض الأندية الأخرى التي كانت صفقاتها فاشلة، أو تأخرت حتى أعطت نتائج في الملعب.
لو أردنا ترجمة ما صنعه تشافي مع برشلونة بالأرقام خلال خمسة أشهر من التدريب، نجد أن الفريق خاض 25 مباراة تحت قيادة هذا المدرب، على مستوى الدوري الإسباني والدوري الأوروبي، بواقع 14 فوزا، و 7 تعادلات، و 4 هزائم، وسجل 50 هدفاً، وتلقت شباكه 28 هدفاً.
بالأرقام أيضاً نلاحظ أن برشلونة في أول 12 مباراة هذا الموسم تحت قيادة كومان، حصد 17 نقطة فقط، بينما حصد في آخر 12 مباراة تحت قيادة تشافي 30 نقطة، ما يدل على التطور الرهيب للفريق مع تشافي على المستوى الهجومي.
تشافي حوّل البارسا أيضاً إلى فريقٍ صلب دفاعياً خلال عام 2022، الذي استقبل فيه الفريق سبعة أهداف فقط في 10 مباريات على مستوى الليجا، ولم يخسر مع تشافي في 12 مباراة متتالية في جميع المسابقات، وحقق الفوز في آخر خمس مباريات في الليجا.
إعادة إحياء لاعبين انتهوا
من الأمور الإيجابية التي تُحسب لتشافي، اكتشافه نقاط الضعف لدى اللاعبين والعمل على تجاوزها، واستثمار نقاط القوة لديهم وتطويرها، ما ساعده على إعادة إحياء كثير من اللاعبين، بعد أن فقدوا مستواهم وواجهوا انتقاداتٍ كبيرة من الجمهور.
حرص المدرب الإسباني على عرض فيديوهات تحليلية بشكلِ مستمر على اللاعبين، والتي ساعدتهم على معرفة نقاط القوة والضعف لديهم، وفهم أفكاره جيداً، ومعرفة كيفية التعامل مع الخصوم، مع العلم أن تلك الفيديوهات من صناعة شركة تابعة لتشافي.
عرف هذا المدرب كيف يُوظّف كل لاعب في مكانه، ولاحظنا كيف استطاع تحسين مستوى كل من "لوك دي يونغ" و"فرانكي دي يونغ" بشكلٍ رائع، والذيّن ساهما بشكلٍ كبير في تسجيل وصناعة الأهداف.
كذلك استطاع تشافي إعادة إحياء "الحرس القديم" الذين فقدوا مستواهم تماماً خلال السنوات الأخيرة، وأقصد هنا بيكيه وبوسكيتس وألفيش، وأصبح مستواهم اليوم يذكرنا بحقبة الجيل الذهبي للبارسا تحت قيادة "بيب جوارديولا".
ولعل الإنجار الأكبر لتشافي كان في طريقة تعامله مع "ديمبلي"، حيث رفض المدرب الانصياع لرغبة الإدارة في رميه على دكة البدلاء بسبب تمرده على النادي، بل صبر عليه والتزم الهدوء في التعامل معه، إلى أن أصبح ديمبلي أكثر لاعب صانع للأهداف مع برشلونة في عام 2022.
في المجمل يمكن القول إنه لا يوجد لاعب واحد في النادي الكتالوني لم يتأثر إيجابياً بقدوم تشافي، والدليل أن 22 لاعباً في الفريق استطاع التسجيل في الموسم الحالي.
طموحات مشروعة ولكن!
في ظل مستوى برشلونة التصاعدي، بدأ سقف الطموحات يرتفع لدى عشاق النادي، وأصبحوا يحلمون بأكثر من مجرد حصد مقعد في الأبطال للموسم القادم، وهناك من بات يفكر في احتمال خطف الليجا، رغم ابتعاد الريال المتصدر عن البارسا بـ 12 نقطة.
لو أردنا الحديث بواقعية بعيداً عن العاطفة، فإن تحقيق الدوري بالنسبة لبرشلونة أمر ليس مستحيلاً لكن صعب للغاية، فهو بحاجة للفوز بمباراته المؤجلة، إلى جانب الانتصار بمبارياته التسع المتبقية في الليجا، على أن يفقد ريال مدريد في المقابل 9 نقاط في آخر 9 جولات.
أما على صعيد ضمان مقعد في دوري الأبطال، فيبدو أنه أصبح في متناول البارسا إلى حدٍ كبير، بعد أن كان صعباً قبيل العام الحالي، كما أن الأداء القوي الذي قدمه برشلونة في الدوري الأوروبي، يجعل احتمال الظفر بهذه البطولة القارية أمر وارد جداً، في ظل عدم وجود منافسين حقيقيين.
كل المعطيات والأرقام تشير إلى أن تشافي ربح الكثير من الجهد والوقت في ظرفٍ وجيز، في سبيل إعادة قطار البارسا إلى السكة الصحيحة، لكن الفريق مازال بحاجة لوقتٍ أطول وجهدٍ أكبر، إلى جانب أهمية استقطاب لاعبين آخرين في الميركاتو الصيفي المقبل، عندها يمكن لبرشلونة أن يفرض نفسه بقوة على الساحتين المحلية والقارية.